Page 204 - ميريت الثقافية رقم (34)- أكتوبر 2021
P. 204

‫العـدد ‪34‬‬           ‫‪202‬‬

                                                            ‫أكتوبر ‪٢٠٢1‬‬  ‫وجوده‪ .‬ومن هنا فإن موقفه‬
                                                                            ‫من التنوير يتفق مع رأى‬
   ‫لشرور الحياة المتمدينة‬        ‫يمكن القول إنه إذا كان‬                    ‫هيردر‪ ،‬فمع ارتباط هيردر‬
    ‫وتعاطفه مع الشعوب‬         ‫كانط قد نقد العقل الخالص‬
                                                                         ‫وتقديره لعصر التنوير‪ ،‬لكنه‬
  ‫البدائية أو الوحشية‪ ،‬بل‬         ‫وحدد قدرته وإمكاناته‬                   ‫لم يستطيع أن يتقبل التنوير‬
     ‫يذهب إلى القول بأنها‬     ‫المعرفية‪ ،‬فإن هيردر بدوره‬                    ‫كصيغة ثابتة جاهزة‪ ،‬ومن‬
                              ‫قد نقد عصره ونقد فلسفة‬                     ‫هنا كان تقدير هيردر للرجل‬
  ‫أكثر اقترا ًبا من الطبيعة‪،‬‬                                             ‫البدائي الذى قد يفوق الرجل‬
    ‫وبالتالي فإن إبداعاتها‬       ‫عصره (فلسفة التنوير)‬
                                    ‫(د‪.‬مجدي الجزيري‪:‬‬                        ‫المتمدين في إدراكه الدلالة‬
  ‫الشعرية هي بالضرورة‬                                                       ‫الحقة للتنوير‪ ،‬وهى دلالة‬
     ‫أفضل من غيرها من‬            ‫التنوير والحضارة عند‬                        ‫ترتبط بمضمون التنوير‬
                                ‫هيردر‪ ،‬الإسكندرية‪ :‬دار‬                      ‫قبل أن ترتبط بصيغته أو‬
   ‫الشعوب المتمدينة‪ ،‬ذلك‬      ‫الوفاء للطباعة والنشر‪ ،‬ط‪.‬‬
‫أنه قد يكون من المستحيل‬       ‫‪ ،2019 ،4‬صص‪.)36 ،35‬‬                                           ‫صورته‪.‬‬
                                                                           ‫من هنا فلعل أبرز ما يتميز‬
    ‫في نظره كتابة قصائد‬            ‫من هذا المنطلق تبدى‬
 ‫شعرية أصيلة لعصر على‬                ‫موقف هيردر ‪-‬كما‬                            ‫به هيردر ‪-‬كما يقول‬
                                   ‫يوضح الجزيري‪ -‬في‬                         ‫الجزيري‪ -‬هو قدرته على‬
    ‫درجة عالية من الرقي‬          ‫نظر دعاة عصر التنوير‬                        ‫تجاوز رؤى عصره التي‬
     ‫والتمدين‪ ،‬ولعل ذلك‬       ‫وكأنه يجسد اتجا ًها ناحية‬
                               ‫اللاعقلانية‪ ،‬بل تمر ًدا على‬                     ‫تحددت في الإعلاء من‬
  ‫يفسر لنا اهتمامه المكثف‬     ‫تقاليد عصر التنوير وعدم‬                     ‫سلطة العقل إلى تقديم نظرة‬
 ‫بجميع الأغاني والقصائد‬        ‫القدرة على تفهم ما تعلمه‬                    ‫جديدة للتاريخ والحضارة‬
                                ‫منه‪ ،‬ومن ثم تجلى تأثره‬
    ‫الشعبية وتعقبها أينما‬       ‫العميق ليس على الحركة‬                        ‫الإنسانية‪ ،‬ومن هنا ومع‬
‫كانت‪ ،‬فإذا أضفنا إلى ذلك‬           ‫الرومانتيكية فحسب‪،‬‬                         ‫تقديره لعصره ورفضه‬
 ‫تقديره العميق للأساطير‬          ‫بل على المذاهب الحيوية‬                      ‫الانسلاخ منه كلية‪ ،‬لكنه‬
                               ‫والوجودية أي ًضا‪ .‬لكن إذا‬
      ‫باعتبارها تعبي ًرا عن‬      ‫كانت إرهاصات الحركة‬                           ‫من ناحية أخرى اتخذ‬
    ‫طفولة البشرية الأولى‪،‬‬     ‫الرومانتيكية تبدو واضحة‬                      ‫موق ًفا إيجابيًّا في مواجهته‪،‬‬
    ‫أدركنا إلى أي حد كان‬          ‫في فكر “هيردر”‪ ،‬كما‬
‫صدامه مع عصر التنوير‪.‬‬           ‫كان من مؤسسي حركة‬                           ‫وبمقتضى هذا الموقف لم‬
                              ‫الدفع والعاصفة‪ ،‬فإن أح ًدا‬                      ‫ينظر إلى حقائق عصره‬
     ‫ولكن متى انتقلنا إلى‬         ‫لا يمكنه تجاهل تغلغل‬
  ‫بعض الآراء التي شكلت‬            ‫المقومات العامة لعصر‬                   ‫بمنظور الحقيقة المطلقة التي‬
‫بعض المنطلقات الأساسية‬         ‫التنوير في نظراته ورؤاه‪،‬‬                    ‫ليس بمقدور أحد تجاوزها‬
   ‫لفكره‪ ،‬لتبين لنا علاقته‬       ‫وكما لاحظ أحد دارسيه‬                      ‫لاستنادها إلى سلطة العقل‬
  ‫العميقة وصلته الحميمة‬        ‫فقد تأرجحت نوازعه بين‬                      ‫وحده‪ ،‬بل نظر إلى ما انتهى‬
‫بعصر التنوير‪ .‬فنظريته في‬        ‫عصر التنوير من ناحية‪،‬‬                       ‫إليه عصره من حقائق‪ ،‬لا‬
  ‫اللغة تؤكد إنسانية اللغة‬     ‫والحركة الرومانتيكية من‬                    ‫باعتبارها نهائية أو مقدسة‪،‬‬
 ‫وتعذر تفسيرها في ضوء‬            ‫ناحية أخرى‪ ،‬فهو يبدو‬
 ‫مصدر واحد إلهي مفارق‬              ‫أحيا ًنا وقد وقع تحت‬                      ‫بل باعتبارها قابلة للنقد‬
‫أو مصدر طبيعي حيواني‪،‬‬               ‫تأثير روسو في نبذه‬                      ‫والمساءلة‪ .‬ومن هنا كانت‬
‫وفلسفته في التاريخ تسلم‬                                                  ‫نزعته التنويرية ‪-‬بمعنى ما‪-‬‬
   ‫بقانون التقدم باعتباره‬                                                 ‫أكثر قدرة على إدراك المعنى‬
‫القانون المهيمن على حركة‬                                                 ‫الحقيقي للتنوير من فلاسفة‬
 ‫التاريخ‪ ،‬وفي ضوء نزعته‬                                                      ‫التنوير أنفسهم‪ ،‬وبحيث‬
   ‫التقدمية يبدو معار ًضا‬
  ‫لكل نزعة بدائية جمالية‬
   199   200   201   202   203   204   205   206   207   208   209