Page 89 - ميريت الثقافية رقم (34)- أكتوبر 2021
P. 89
87 إبداع ومبدعون
قصــة
أمها لن توافق ،ولكنها يمكن أن توافق إذا كانت يعنيني ..قلت:
الدروس في بيت قريب منها ،ولم يكن ذلك يعني إلا -توفى أبا «جميلة» منذ عامين -ومن يومها بدأت
«جميلة» رحلة الرسوب -وكنا نعرفه جي ًدا؛ كان
أن يستمر الضغط والإلحاح علينا ليل نهار؛ أبي، له محل في نفس شارعنا يمارس فيه نشاطه ،فلما
وأمي ،وأنا لكي يكون تجمعنا أنا وصديقاتي -بمن توفى في حادث سير ،ذهبنا أبي وأمي وأنا لتعزية
الأسرة .كانت تلك أول مرة أرى «جميلة» فيها عن
فيهن «جميلة» طب ًعا -في بيتنا ،لأنه الأقرب لها. قرب ،فهم لم يعيشوا في شارعنا من زمن ،لذا لم
وذلك يجعل والدتها «فكرية» توافق على موضوع نعرف بعضنا البعض منذ الطفولة .بيتهم بسيط،
الدروس بد ًل من ترديدها الدائم بأنه لا لزوم لها ربما أقل من كل بيوت الحي .ومن الواضح أنهم
مادامت «جميلة» ستتزوج في النهاية ،فلا لزوم وضعوا كل مدخراتهم في الشقة والمحل ،حيث
للتعب والمعاناة في سبيل إتمام التعليم ،ونيل شهادة قالوا في مجمل حديثهم إنهم عاشوا سنين في دولة
لا تساوي الكثير عندها .ولم تجد «جميلة» ُب ًّدا من عربية؛ عمل والدهم هناك في نفس حرفته .وقد
مسايرة والدتها ،وتأكيدها أنه لا بد لها من الدروس استطاع كسب ثقة رب العمل ،ولكنه وبدون أسباب
معلنة قرر العودة إلى مصر فجأة مصطحبًا أسرته،
حتى تستطيع إتمام مرحلتها الثانوية ،ومن ثم
الاستقرار في البيت لانتظار العريس المرتقب. مضحيًا بمعظم مدخراتهم ،وكذلك بمكافأة نهاية
لم نستطع الصمود ،حيث اضطررنا إلى الموافقة الخدمة ،وهي مبلغ كبير ج ًّدا .حمل الأب معه فقط
في النهاية تحت ضغط الإلحاح والرجاء والتوسل ما قدر على استخلاصه من مستحقاته لديهم ،وف َّر
الذي مارسته صديقاتي علينا .وبالفعل زاد التجمع سري ًعا إلى مصر كأنه مرتكب لجرم ،أو أمر خاف
واللقاءات المتكررة من تعارفنا ،وأصبحت «جميلة» افتضاحه فعجل بالسفر ،والبعد عنه .دققت النظر
تتحدث معنا أحاديث عامة كثيرة ،ولكنها ولا مرة ساعتها في أم «جميلة»« ،فكرية» ..هكذا هو اسمها،
تطرقت إلى حياتها الخاصة .حتى جاءت الصديقات فوجدتها رائعة ،وفائقة الجمال حتى في مشهدها
في صباح يوم دراسي يتسابقن في الحكي لي عما الذي من المفترض أن تبدو فيه وحيدة وحزينة .لم
حدث ليلة أمس بعد انتهاء الدرس ،ونزولهن م ًعا يكن الحزن باد ًيا عليها مثل «جميلة» ،التي كانت
من بيتي ،لتمضي كل واحدة بعد ذلك في طريقها،
أكثرهم حز ًنا وقل ًقا كأنها فقدت الفرح الدائم في
فقالت مروة: حياتها والسند .ومن الواضح أن حالتها وملامحها
-لن تصدقي أب ًدا ما حدث ،فعند نزولنا إلى الشارع
قد تغيرت ،فلم تعد أب ًدا تلك الطفلة التي كانت في
بعد انتهاء الدرس وجدنا شا ًّبا صغي ًرا ينتظرنا، حياة أبيها.
وكأنه يعرف بوجودنا عندك للدرس ،ويعرف البيت
كانت متابعة «جميلة» والتطفل على حياتها هو
جي ًدا .فأخذت كل منا تسوي هيئتها ،واعتقدنا أنه شغلنا الشاغل أنا وصديقاتي منذ تلك اللحظة،
معجب بإحدانا ،ولكنه اتجه مباشرة نحو «جميلة». وأصبح معرفة أي جديد عن حياتها هو مادة
جيدة للحديث ترضي شغفنا .وأصبحت مراقبتها
وأكملت مروة قائلة: اليومية في الفصل لا تكفينا ،فكانت الصديقات
-حين رأته «جميلة» يتجه نحوها ،أسرعت الخطى يتذرعن بزيارتي لأي سبب حين عرفوا بيتها،
وصرن يتسكعن عنده علَّهن يصادفن أي حادث
إليه لتلتقيه بعي ًدا عنا حتى لا نسمع حديثهما، جديد .وبدأ موسم الدروس الخصوصية ،فقامت
وبالفعل تحدثا سري ًعا ،والغريب أن «جميلة» سارت «سماح» بدعوة «جميلة» للانضمام لمجموعتنا في
الدروس حتى يكون لملاحقتهن إياها شكل مشروع.
معه ،وهي لا تشعر بأي خجل كأنها تعرفه من واقترحت عليها أن نتجمع ،ونأخذ دروسنا في
قبل برغم أن شكله مختلف عنا قلي ًل .فيبدو من بيتها ،فرفضت «جميلة» رف ًضا تا ًّما ،وقالت إن
هيئته ولبسه ولكنته -التي سمعناها عن بعد وهو
يحدثها -أنه غير مصري ،ربما من دولة عربية
أخرى!
لم أعلق على ذلك الموقف الذي ذكرته لي كل واحدة
منهن بطريقتها؛ بجدية مرة ،وبغمز ولمز مرة ثانية،