Page 219 - merit 52
P. 219

‫الملف الثقـافي ‪2 1 7‬‬

  ‫في جانب كبير منه لطفولته‬          ‫أمر في ُمنتهى الصعوبة‪،‬‬       ‫من صنف آخر يمارسها هذا‬
‫التي عاشها في زمنية الحرب‬         ‫ولا سيما في حياة أسا ُسها‬       ‫العنوان في تشظياته وأبعاده‬
                                  ‫الرعب والارتياب ووسمها‬         ‫المتفرقة‪ ،‬فإذا كانت الذبابة في‬
     ‫العالمية الثانية (‪-1939‬‬      ‫اللا استقرار‪ ،‬أقص ُد طفول ًة‬    ‫الحساء تحتمل صورة الفقر‬
   ‫‪ )1945‬بين الحلفاء ودول‬                                        ‫وتصوير الهشاشة والعدمية‬
‫المحور‪ ،‬والفوضى التي حلَّت‬            ‫عاشها سيميك وخرا َب‬
   ‫بالعالم بعد استئناف ذلك‬         ‫الحرب وهشي َم النار يأتي‬            ‫فله دلالات أخرى‪ ،‬فقد‬
  ‫الخراب‪ ،‬ويسعى من خلال‬                                            ‫يحتمل منظو ًرا آخر القصد‬
                                       ‫على العالم‪ ،‬ويأتي على‬        ‫منه أن الذبابة هو الشاعر‬
     ‫تمثيله الذاتي في سيرته‬         ‫يوغوسلافيا‪ ،‬ويأتي على‬        ‫نفسه التائه المشتت الذي كل‬
   ‫تظهير المشهد الطاغي على‬                                          ‫ما استقر قلي ًل طا َر هار ًبا‬
‫أوروبا الشرقية‪ ،‬أكبر مسرح‬                          ‫بلجراد‪.‬‬          ‫كثي ًرا‪ ،‬والحسا ُء هو العالم‬
  ‫للحرب في التاريخ وقتذاك‪،‬‬       ‫معلو ٌم أن ال ِّسيرة باعتبارها‬     ‫الذائب الغارق في تفاصيل‬
 ‫وموق ِع بلده يوغوسلافيا في‬     ‫سر ًدا قصصيًّا ُيترجم للحياة‬     ‫ال َّدمار على مرأى عينيه‪ ،‬أعتبر‬
  ‫دائرة الحرب الطاعنة‪ ،‬التي‬                                       ‫عنوان السيرة ُمراو ًغا يلعب‬
   ‫كانت محط أطماع مختلفة‬              ‫الخا َّصة للكاتب في أهم‬      ‫لعبة الإيحاءات اللا متناهية‬
 ‫في فترات زمنية متباينة‪ ،‬من‬      ‫أحداث حيا ِته وأقواها دلال ًة‪،‬‬
  ‫طرف الفاشية الألمانية التي‬                                         ‫وهذا أمر ب َدهي في سيرة‬
  ‫احتلت مدينة بلجراد‪ ،‬ومن‬          ‫غير أنه من زاوي ٍة ما نج ُد‬      ‫رجل عاش اللا محدود في‬
‫طرف الاتحاد الشيوعي طر ًفا‬      ‫كاتب السيرة لا يكشف عاد ًة‬         ‫زمن اللا حدود‪ ،‬إنه عنوان‬
‫في مسرح الحرب‪ ،‬وبالتزامن‬         ‫إلا تلك الأوجه التي يريد أن‬
  ‫مع ذلك نشبت لعن ُة الحرب‬       ‫يتذكرها القراء ويعرفوها(‪،)4‬‬         ‫«يؤسس في ذهن المتلقي‬
  ‫الأهلية في يوغوسلافيا بين‬       ‫ولكن سيرة سيميك لعل ما‬          ‫إيحا ًء ما‪ :‬انفعاليًّا أو أسلوبيًّا‬
                                ‫يميزها ويضم ُن لها الدينامية‬       ‫أو حتى أيديولوجيًّا‪ ،‬بحيث‬
     ‫دزينة من الفصائل التي‬                                       ‫لا يبدأ المتلقي في تلقي النص‬
‫تذبح بعضها البعض؛ الملكيين‬            ‫في التناول الجماهيري‬        ‫أو في قراءة العمل المبدع من‬
                                   ‫والتداول النقدي‪ ،‬هو ذلك‬        ‫نقطة الصفر‪ ،‬وإنما يبدأ مما‬
 ‫والشيوعيين والفاشيين(*)‪..‬‬      ‫الصدق العفوي في تشخيص‬              ‫يؤسسه العنوان من معرفة‬
   ‫«تحدث مثل هذه الأمور‬           ‫الأحداث وتصوير الوقائع‪،‬‬
   ‫كثي ًرا‪ ،‬اليساريون كانوا‬      ‫وتلك اللغة البسيطة الآسرة‬                      ‫أو إيحاء» (‪.)2‬‬
                                                                  ‫يبدو ُمفي ًدا اعتبا ُر هذا النص‬
 ‫متأكدين من أننا فاشست‪،‬‬                      ‫للفكر والذوق‪.‬‬        ‫السير ذاتي نب ًشا في الذاكرة‬
 ‫واليمينيون كانوا متأكدين‬         ‫نقرأ في هذه الورقة البحثية‬       ‫يعم ُد إلى المراهنة على تقنية‬
 ‫أننا شيوعيون‪ .‬سرد قصة‬          ‫نص السيرة الطويل لسيميك‬
                                ‫الذي وقع في (‪ )319‬صفحة‪،‬‬                ‫التعري ة �‪La dénuda‬‬
     ‫حياتنا كان يزيد الأمر‬                                       ‫‪ ،)3(tion‬فأن تلبي نداء الكتابة‬
                 ‫سو ًءا»(‪.)5‬‬        ‫وذلك من ُمنطلق مفصلي‬          ‫السير ذاتية هو أن تكون لك‬
                                  ‫َيستوعب ُسرود و َمسارات‬
      ‫يص ُف سيميك عصور‬                                              ‫القدرة على شيطنة الذاكرة‬
   ‫الظلام تلك‪ ،‬والأشياء التي‬          ‫هذا النص السير ذاتي‪،‬‬        ‫وترويضها والذهاب بها إلى‬
 ‫حدثت منذ أزيد من خمسين‬         ‫ولتظهير ذلك وضعنا المحاور‬         ‫الأقاصي لاستذكار تفاصيل‬
                                ‫الآتية للتحليل بما هو تركيب‪.‬‬
      ‫سنة‪ ،‬ويذه ُب بعي ًدا إلى‬                                      ‫ال ُعمق الزمني وارتباطاتها‬
  ‫عتمة الماضي مذك ًرا بفداحة‬    ‫أو ًل‪ :‬الحرب والجوع‬                 ‫المختلفة في شتى الدروب‪،‬‬
‫الحرب‪ ،‬ومع كل كلمة يخطها‬           ‫وهاوية الفراغ‬                 ‫وغير خاف أن تقاسم الحياة‬
                                                                   ‫الشخصية والصوغ الذاتي‬
     ‫في سيرته يلاحق ُه شبح‬        ‫إن المحكي الذاتي في سيرة‬
  ‫الذاكرة التي أدانت خسارة‬        ‫تشارلز سيميك‪ ،‬هو تمثيل‬
   214   215   216   217   218   219   220   221   222   223   224