Page 30 - Jj
P. 30

‫العـدد ‪35‬‬   ‫‪28‬‬

                                                       ‫نوفمبر ‪٢٠٢1‬‬

   ‫على رائحة الخرابة والبكابورت والبالوعة واعتبرها‬      ‫عالميًّا هو والمخرج ودميانه (أم ماريو)‪ .‬لكنها عادة‬
    ‫من طبائع الأمور‪ ،‬وأنه لا يوجد غيرها‪ ،‬وأنها المثل‬      ‫ما تكون مرتبطة منطقيًّا بسياق درامي وبصور‬

                                ‫والنموذج والمثال‪.‬‬      ‫يمنحان الرموز تفسي ًرا‪ .‬هنا تكون الحوارات المفككة‬
‫كلنا تورطنا في هذا الفخ‪ ،‬ومن شدة تورطنا وإحساسنا‬        ‫مفهومة بالمعنيين اللغوي والدرامي وليست مجرد‬
                                                           ‫«أصوات» يتم إطلاقها من أجل زيادة الغموض‬
  ‫بالدونية تضخمت لدينا نزعة العنصرية والحساسية‬                                         ‫وملء الفراغات‪.‬‬
     ‫تجاه الآخر والإحساس الكاذب بالعظمة والتفوق‪.‬‬               ‫نحن أمام فيلم مفكك‪ ،‬على مستوى الأفكار‬
       ‫وبطبيعة الحال‪ ،‬فقدنا ملكة الخيال‪ ،‬إحدى أهم‬            ‫والصور‪ ،‬سواء كان ذلك بمفاهيم الحداثة أو‬
                                                             ‫بمفاهيم ما بعد الحداثة‪ .‬وهو أقرب إلى أفلام‬
 ‫مصادر الإبداع‪ .‬وبالتالي‪ ،‬عندما رأى المصريون‪ ،‬حتى‬        ‫«مشاريع التخرج» المبشرة التي يتم تصويرها في‬
  ‫أولئك الذين يتابعون السينما والمسرح في المجتمعات‬
‫المتطورة‪ ،‬ساح ًرا يحول رج ًل إلى فرخة خ ُّروا ساجدين‬   ‫ظروف صعبة وتقشفية‪ ،‬تحت وطأة الأفكار الكثيرة‬
‫واعتبروها معجزة لا يجترحها إلا الأنبياء والمختارون‪.‬‬     ‫المتناقضة التي تدور في ذهن طالب السنة الأخيرة‬
  ‫إن فيلم «ريش» عبارة عن مشهد مقطعي تم انتزاعه‬             ‫الذي يريد أن يحصل على علامات جيدة ويبهر‬
                                                                                     ‫أساتذته وزملاءه‪.‬‬
    ‫من أحد الأفلام التي تصور عالم ما بعد الكوارث‪.‬‬
     ‫وهناك عشرات الأفلام من هذا النوع تصور عالم‬                    ‫عبادة الفرخة!‬
   ‫الفقراء وحياتهم‪ ،‬وتعتمد على التقاط تفاصيل المكان‬
    ‫والملامح لتبرز الفقر والانحطاط وتدهور الأوضاع‬       ‫ماذا فعل الجمود والتكلس والعشوائية طوال أكثر من‬
   ‫واختلاط الحيوانات والطيور والبشر في مكان واحد‬        ‫سبعين عا ًما‪ ،‬وبالذات في السنوات الأربعين الأخيرة؟‬
 ‫قبيح ومتخلف لا يمكن حتى النظر إليه‪ .‬هناك عشرات‬
    ‫الأفلام التي تم إنتاجها وهي موجودة على وسائل‬           ‫وماذا فعل إغلاق المجال السياسي وإحكام القبضة‬
   ‫التواصل الاجتماعي‪ ،‬لا نعرف فيها اسم المكان‪ ،‬ولا‬         ‫الأمنية على ليس فقط الحريات العامة والشخصية‪،‬‬
 ‫نعرف اسم الدولة ولا جنسية الناس‪ ،‬وإنما يتم طرح‬             ‫بل وأي ًضا على «العقل»‪ ،‬وفرض الرقابة الصارمة‬
   ‫هذا العالم كجزء من عمل درامي كامل يطرح أفكا ًرا‬          ‫على الإبداع؟! وفرض أجندات دينية رسمية وغير‬
  ‫علمية أو خيالية أو قضايا رقمية سيصطدم الإنسان‬          ‫رسمية وأنماط من الشعوذة والضلالات والأساطير‬
                                                         ‫والغيبيات!! ماذا حدث للعقل والوجدان المصريين في‬
       ‫بها في المستقبل‪ ،‬أو قضايا إنسانية عن الطبقية‬
  ‫والاغتراب والاستلاب والتهميش‪ .‬ولكن كما قلنا فإن‬                               ‫السنوات السبع الأخيرة؟!‬
  ‫هذه المقاطع تأتي كأجزاء من عالم درامي كامل قادر‬         ‫لقد فقد العقل المصري القدرة على الخيال‪ ،‬وغرق في‬
‫على تفسير الرموز التي يطرحها‪ ،‬ولا يترك العمل الفني‬       ‫سينما سيئة وتقليدية ومبتذلة للغاية تشبه «الخراء»‬
  ‫لـ»التأويل»‪ .‬وأعتقد أننا أوضحنا الفارق بين تفسير‬      ‫وتشبه الممثلين والمخرجين والنقاد والمنتجين‪ ،‬وتشبه‬
  ‫الرموز في السياق الدرامي وبين كارثة التأويل التي‬
                                                               ‫طريقة تفكيرهم وتعبيراتهم‪ ،‬وغرق في مسرح‬
   ‫تسمح بتحويل العصفور إلى برج والحمار إلى نهر!‬           ‫متأزم ومتخلف وتقليدي تما ًما يشبه الجهل والغباء‬
‫إن فيلم «ريش» هو مقطع طولي مجتزأ من تلك الأفلام‬        ‫والطاحونة المسرحية التي ظلت تطحن «الخراء» وتعيد‬
                                                          ‫طحنه إلى أبد الآبدين كأنه صخرة «سيزيف»‪ .‬ومن‬
      ‫قام بنقل تفاصيل الفقر والمعاناة لا أكثر ولا أقل‬   ‫شدة الانغلاق والتقوقع تضخمت ذاتيته وأصبح أكثر‬
   ‫وترك الأمر لـ»التأويل»‪ .‬ومرة أخرى نؤكد أنه فيلم‬         ‫أنانية وشعبوية وإحسا ًسا بالدونية‪ ،‬فتزايدت لديه‬
 ‫«مشروع تخرج» كان من الأصلح والأفضل أن تكون‬             ‫نزعة العنصرية والإحساس الكاذب بالعظمة والتفوق‪.‬‬
‫مدته نصف ساعة أو أربعين دقيقة على الأكثر‪ .‬كما أنه‬
  ‫من الأفضل عدم إصدار أحكام قيمة على الفيلم‪ ،‬لأنه‬           ‫من طول فترة العيش في خرابة أو بالوعة لم يعد‬
  ‫ببساطة مجرد مقطع طولي من عشرات الأفلام التي‬                ‫الإنسان المصري قاد ًرا على التمييز أو التذوق أو‬
                                                          ‫الإحساس بالجمال‪ ،‬فقد غالبية أحاسيسه‪ ،‬أو تعود‬
             ‫تتناول العالم في مرحلة ما بعد الكوارث‬
   25   26   27   28   29   30   31   32   33   34   35