Page 33 - Jj
P. 33

‫‪31‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

 ‫فيلمه بالكامل‪ ،‬ومضمونه الذي يعمل عليه المُخرج‪.‬‬            ‫باللحظة الآنية التي يعيشون فيها‪ ،‬أي أن المُخرج‬
  ‫ربما سنتساءل‪ :‬من هو هذا الرجل‪ ،‬ولم أقدم على‬            ‫هنا يتأمل مقط ًعا من حياة لمجموعة من البشر‪ ،‬هذا‬
                                                         ‫المقطع العرضي من حياتهم يخدم رؤية المُخرج في‬
    ‫حرق نفسه‪ ،‬وأين هي أسرته‪ ،‬وما هي حكايته؟‬             ‫تأمله للفقر بشكله العام‪ ،‬ويساعد المُشاهد بدوره في‬
  ‫لكننا لن نعرف عنه شيئًا مرة أخرى؛ لأن علاقته‬           ‫تأمل ما يقدمه لإسقاط دلالاته من دون إدانة لأي‬
‫الوحيدة بالفيلم هي ُمجرد الرمز فقط‪ ،‬أي أنه ُمنبت‬         ‫أحد فيما يحدث لهم؛ فجميع الشخصيات واقعة في‬

    ‫الصلة بالأحداث رغم أهمية رمزيته إليها‪ ،‬ومن‬             ‫مأزق وجودي يعانون فيه من الفقر الذي يقسو‬
 ‫هنا نفهم أن فعل الانتحار في المُقدمة إنما ُيدلل على‬      ‫عليهم؛ الأمر الذي يجعلهم يسقطون هذه القسوة‬
  ‫حياة القهر والفقر الشديدين اللذين سنراهما على‬
  ‫طول أحداث الفيلم فيما بعد‪ ،‬أي أن مشهد ما قبل‬               ‫على بعضهم البعض في عملية إحلال اجتماعي‬
                                                           ‫وطبقي طبيعية باعتبار أن القهر‪ ،‬هنا‪ ،‬عبارة عن‬
    ‫التيترات‪ ،‬هنا‪ ،‬إنما يعطينا صورة كلية عن هذا‬             ‫حلقات ُمتصلة‪ ،‬ورغم ُمعاناتهم جمي ًعا إلا أنهم‬
                                         ‫العالم‪.‬‬         ‫يتبادلون المُعاناة فيما بينهم‪ ،‬وكأنما الحلقة الأقوى‬
                                                            ‫‪-‬في الدائرة الواهية رغم وهنها‪ُ -‬تمارس القهر‬
 ‫ربما لا بد لنا‪ ،‬هنا‪ ،‬من التوقف هنيهة للتعرف على‬           ‫على الحلقة الأكثر وهنًا إلى أن تنتهي عند الحلقة‬
 ‫أسلوبية المُخرج التي اختارها من أجل تقديم عالمه‬
                                                                                        ‫المُتفسخة تما ًما!‬
     ‫السينمائي‪ .‬س ُنلاحظ ُمنذ المشهد الأول حرص‬            ‫إذن‪ ،‬فنحن‪ ،‬هنا‪ ،‬أمام حالة فنية ومزاجية خاصة‬
   ‫الزهيري على تقديم فيلمه من خلال ألوان باهتة‬
 ‫تما ًما‪ ،‬تميل إلى الشحوب الموحي بالبرودة الثلجية‬            ‫ج ًّدا‪ ،‬يعمل المُخرج على إكسابها قد ًرا غير هين‬
‫والموت‪ ،‬وتقترب أحيا ًنا كثيرة من الإظلام في بعض‬           ‫من الخصوصية؛ وهو ما أدى به إلى إغلاق العالم‬
   ‫المشاهد‪ ،‬كما سنرى الكثير من الغبار‪ ،‬والأدخنة‬           ‫عليه تما ًما‪ ،‬أي أننا أمام عالم فني شديد الإغلاق‪،‬‬
    ‫المُسيطرة على إطار الصورة حتى نهاية الفيلم‪،‬‬           ‫لا علاقة له بما يدور خارجه في الواقع‪ ،‬ولا يمكن‬
                                                          ‫لهما الاشتباك م ًعا أو تبادل التأثير والتأثر‪ ،‬وهو‬
      ‫فض ًل عن المباني المُتهالكة التي تزخرفها بقع‬         ‫ما أكسب الفيلم منطقه الفيلمي الذي لا يمكن لنا‬
  ‫الرطوبة‪ ،‬أو تقشر طلائها‪ ،‬أي أن المُخرج حريص‬           ‫‪-‬ك ُمشاهدين‪ -‬نقاشه فيه ‪-‬أي المنطق الفيلمي‪ -‬بما‬
  ‫من خلال الألوان والإضاءة على أن يقدم لنا عالمًا‬         ‫أنه قد نجح ُمنذ اللقطة الأولى في إغلاق العالم من‬
‫ُمنتهيًا تما ًما‪ ،‬عالمًا منتهي الصلاحية أقرب إلى أفلام‬
                                                                         ‫أجل إكسابه خصوصيته الذاتية‪.‬‬
    ‫نهاية العالم‪ /‬الدستوبيا التي نراها في السينما‬           ‫يبدأ الزهيري فيلمه القاتم بشاشة ُمظلمة تما ًما‬
      ‫الأمريكية المُعبرة عن حلول كارثة ما بالعالم‪،‬‬       ‫بينما نسمع في الخلفية صوت بكاء رجل ما بقهر‪،‬‬
  ‫ومن ثم يكون المُتبقين على ظهر هذا الكوكب‪ ،‬بعد‬            ‫ثم صوت انسكاب سائل ما‪ ،‬يتلوه صوت أعواد‬
 ‫الكارثة‪ُ ،‬مجرد مجموعة من البشر البائسين الذين‬           ‫ثقاب تشتعل‪ ،‬و ُسرعان ما نستمع لصوت اشتعال‬
 ‫يحاولون التحلي بالأمل في إعادة العالم إلى ما قبل‬         ‫النيران وصراخ رجل يتعذب أو يحترق‪ ،‬هنا نرى‬
                                                            ‫على الشاشة رج ًل ُمشتع ًل تما ًما يقاوم النيران‬
                                   ‫هذه الكارثة‪.‬‬             ‫وسط العديد من مداخن المصانع بينما التوقيت‬
‫إن عالم الزهيري هو عالم ما بعد الكارثة‪ -‬بالتأكيد‬           ‫يبدو لي ًل‪ ،‬وليس ثمة شخص آخر داخل الكادر‪،‬‬
                                                         ‫و ُسرعان ما ينتقل إلى الصباح على نفس المشهد في‬
  ‫لن ُيحدد لنا الكارثة التي حلت بالعالم‪ ،‬لكن لا بد‬      ‫بيئته الصناعية لنرى نفس الجثة صبا ًحا بعدما أتت‬
     ‫لنا من إدراكها حيث تعني الفقر المُمثل للمأزق‬
                                                                                     ‫عليها النيران تما ًما!‬
  ‫الوجودي للشخصيات‪ -‬وشخوصه الفيلمية فيه‬                     ‫إن مشهد ما قبل التيترات السابق ‪Avant titre‬‬
 ‫هم المُتبقين في هذا العالم بعدها‪ ،‬محاولين التشبث‬       ‫يكاد يكون هو المشهد التأسيسي للفيلم الذي يرغب‬
                                                         ‫الزهيري في تقديمه‪ ،‬بل هو المشهد الحامل لفلسفة‬
   ‫بالحياة وسط دمار كامل‪ ،‬ربما لتمسكهم بالأمل‬
    ‫الذي لا فائدة منه‪ ،‬أي أن المُخرج ينجح هنا من‬
 ‫خلال الصورة وألوانه التي اختارها في إدخالنا إلى‬
 ‫عالمه‪ /‬مأزقه الشخصي والخاص؛ ومن ثم أصبح‬
‫علينا التعامل مع ُمفردات هذا العالم الذي علقنا معه‬
   28   29   30   31   32   33   34   35   36   37   38