Page 133 - ميريت الثقافية- العدد رقم 22 أكتوبر 2020
P. 133

‫‪131‬‬  ‫تجديد الخطاب‬

 ‫إلى هنا والاتفاق أو التوافق مؤكد‬            ‫الخلافة هذا الوضع تغيي ًرا‬     ‫جعل النفوس تستروح إلى هذه‬
‫بين ما ورد عند الإمام وما سجله‬           ‫حاس ًما‪ ،‬ولدى النظر من يومنا‬       ‫الثروة الفقهية والاستغناء عن‬
                                         ‫الحاضر البعيد عن تلك الأزمنة‬
     ‫الباحث في مبحثه‪ ،‬لنصل إلى‬          ‫يتشكل انطباع كما لو أن العرب‬                  ‫البحث والاستنباط‪.‬‬
   ‫نتيجة تصل إلى مرتبة الحقيقة‬           ‫قد دخلوا بشكل ما غير متوقع‬            ‫ثانيًا‪ :‬ضعف الثقة بالنفس‪،‬‬
‫غير الملتبسة حول مدركات الثقافة‬          ‫مرحلة الكتابة وأصبحوا خلال‬             ‫والتهيب من الاجتهاد‪ .‬فقد‬
  ‫العربية إجما ًل‪ ،‬وبالتالي التراكم‬      ‫وقت قصير ج ًّدا متقنين لكتابة‬      ‫اتهم الفقهاء أنفسهم بالضعف‬
   ‫المعرفي وتحديد بنيتها الثقافية‪.‬‬       ‫متطورة واسعة‪ ،‬رغم أن عملية‬         ‫والعجز والتقصير‪ ،‬وظنوا أنهم‬
   ‫منها‪ ،‬أن الثقافة العربية تاري ًخا‬     ‫تمازج الآداب الكلامية العربية‬      ‫غير قادرين على تلقي الأحكام‬
‫ومحتوى بداية من ظهور الإسلام‬                                               ‫من منابعها الأصلية‪ ،‬وأن الخير‬
                                           ‫الشفاهية والإرث الكتابي في‬       ‫لهم واللائق بهم التقيد بمذهب‬
     ‫وتمكنه في الأرض وانتشاره‬           ‫إيران الساسانية وبيزنطة‪ ،‬هذه‬     ‫معروف والدوران في فلكه والتفقه‬
 ‫الواسع بين الأقطار غير العربية‪،‬‬      ‫العملية التي أنجبت هذه الكتابة قد‬      ‫بأصوله‪ ،‬وعدم الخروج عنه‪.‬‬
                                       ‫استمرت في الواقع ما لا يقل عن‬         ‫وفي هذا العصر‪ ،‬دعا بعضهم‬
    ‫مما أسس لها ووثق تاريخها‬                                                 ‫إلى سد باب الاجتهاد‪ ،‬لأنه لما‬
   ‫ونتاجها الأدبي والفكري حتى‬                        ‫قرنين من الزمن‪.‬‬        ‫كثرت ممن ليسوا أهله وخشي‬
                                           ‫وكان للتثبيت الكتابي للقرآن‬      ‫الفقهاء من عبث هؤلاء الأدعياء‬
      ‫المرتبط منه بالدين والتدين‬        ‫والذي استمر قرابة ثلاثين عا ًما‬    ‫وإفسادهم دين الناس بالفتاوى‬
    ‫ومنه الفقه واستنباط الأحكام‬           ‫أهمية كبري لتغير الموقف من‬       ‫الباطلة التي لا تقوم على علم أو‬
‫بالضرورة‪ ،‬ثقافة مجتمعية وليدة‬          ‫الكلمة المكتوبة‪ .‬وقد تحول اتقان‬       ‫فقه‪ ،‬أفتوا بسد باب الاجتهاد‬
   ‫يستغرق بناؤها حوالي القرنين‬           ‫الكتابة من التجربة المجدية إلى‬     ‫دف ًعا لهذا الفساد وحف ًظا لدين‬
  ‫من الزمن‪ ،‬ليبدأ عصر الاجتهاد‬          ‫فضيلة دينية تقريبًا‪ ،‬ومع تزايد‬      ‫الناس‪ ،‬والحق أن الاجتهاد باق‬
  ‫كما أوضح الإمام‪ .‬وبالعودة إلى‬          ‫عدد العرب المتعلمين بدأ تثبيت‬     ‫في حكم الشريعة‪ ،‬ولا يزول‪ ،‬إلا‬
     ‫الكتاب السابق‪ ،‬يقول‪« :‬ومنذ‬         ‫كل ما حفظ في الذاكرة البشرية‪،‬‬       ‫أن الاجتهاد لا بد له من توافر‬
   ‫أن يتبوأ معاوية عرش الخلافة‬        ‫وقد حفظ منها الكثير‪ .‬تذكرت كل‬          ‫شروطه‪ .‬فمن تتوافر فيه هذه‬
     ‫وحسب (‪ )680 -661‬تظهر‬                ‫قبيلة أشعار شعرائها وكلمات‬         ‫الشروط فله أن يجتهد ومن لم‬
‫معلومات موثقة عن تطور الكتابة‬               ‫كهنتها وظرفائها والظروف‬       ‫يحط بها عل ًما فحرام عليه الإفتاء‬
‫العربية‪ .‬لقد أظهر معاوية اهتما ًما‬        ‫التي ارتبط ظهورها بها‪ ،‬وقد‬           ‫في شرع الله بغير علم»‪)13(.‬‬
  ‫كبي ًرا بالموروثات القبلية المروية‬   ‫أضيفت إلى الموروثات المروية ما‬         ‫وأورد أي ًضا ما جاء في كتاب‬
‫وبالتاريخ الخيالي لشبه الجزيرة»‪.‬‬       ‫قبل الإسلام ذكريات عن مرحلة‬              ‫(دراسات في تاريخ الثقافة‬
                                                                              ‫العربية‪ ،‬القرون ‪ 5‬ــ ‪ )15‬إذ‬
            ‫***‬                              ‫الغزوات الغنية بالأحداث‪.‬‬     ‫يقول الباحث في الدراسة الرابعة‬
     ‫«وكانت أوساط معارضة في‬              ‫ويعود الدور البارز في التثبيت‬   ‫تحت عنوان الثقافة الكتبية‪« :‬ظلت‬
    ‫المدينة والبصرة‪ ،‬والكوفة هي‬        ‫الكتابي للآداب الكلامية الشفوية‬     ‫قبائل شبه الجزيرة العربية قبل‬
       ‫المركز الآخر لتطور الكتابة‬          ‫إلى مثقفي بلدان الخلافة غير‬     ‫الإسلام عمليًّا دونما كتابة رغم‬
  ‫العربية‪ ،‬هناك حيث كانت تجمع‬          ‫العرب من حيث أصولهم‪ ،‬والذين‬          ‫أنها عاشت قرو ًنا متجاورة مع‬
     ‫بالصورة الرئيسية المواد عن‬         ‫يجيدون التحدث والكتابة باللغة‬        ‫شعوب ذات حضارات قديمة‬
   ‫حياة الجماعة الإسلامية الأولى‬          ‫العربية‪ ،‬ولتدوين هذه الآداب‬        ‫كتابية متطورة‪ ،‬ورغم تواجد‬
     ‫وكذلك الشعر العربي القديم‬                                               ‫شكل عربي للكتابة الآرامية»‪.‬‬
 ‫والمعلومات السلالية‪ ،‬وقد تكونت‬            ‫الكلامية استنهضهم السعي‬        ‫«وقد غير ظهور الإسلام وتشكل‬
       ‫أيام الأمويين فنون الكتابة‬      ‫لإتقان اللغة بشكل أفضل وكذلك‬
‫العربية العديدة‪ ،‬ومجمل ما نعرفه‬         ‫التعود على إدراك ونقل المعارف‬
‫عن الكتابة العربية في تلك المرحلة‬
‫يقدم حوالي مائة اسم من المؤلفين‬                  ‫بالصيغة المكتوبة»‪)14(.‬‬
   128   129   130   131   132   133   134   135   136   137   138