Page 23 - ميريت الثقافية- العدد رقم 22 أكتوبر 2020
P. 23

‫‪21‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

‫وأرجأت الفصل الخاص بولادتها إلى مرحلة لاحقة‬           ‫كالورود الزاهية‪ ،‬فتمتعوا بهن ومتعوهن بكم‪ ،‬لا‬
‫هو فصل «باب الحب»‪( .‬ص‪ )34‬وهكذا كان السرد‬               ‫تتركوا الورد يذبل دون لمس وري»‪( .‬ص‪)239‬‬
 ‫ينتقل بين الأزمنة والأمكنة بحرية وسلاسة‪ ،‬دون‬
‫أن يتقيد داخل إطار النسق الخطي التقليدي للسرد‬             ‫ونصبت من نفسها داعية للحرية‪ ،‬فهي ضد‬
                                                    ‫العبودية والاسترقاق‪ ،‬وضد مصادرة حرية الفكر‪،‬‬
                                       ‫الروائي‪.‬‬     ‫وكانت تقول «ستظل الفكرة حرة طليقة تنتشر عبر‬
 ‫رواية «منازل ح ‪ »17‬للروائية رغد السهيل‪ ،‬رواية‬
‫فريدة ومتفردة في الرواية العراقية‪ ،‬وربما العربية‪،‬‬             ‫الهواء‪ ،‬لا تصدها القضبان»‪( .‬ص‪)238‬‬
                                                        ‫ومع أن قمر الزمان ظلت متماسكة فكر ًّيا طيلة‬
       ‫ربما لخصوصيتها وجرأتها وفنيتها العالية‬         ‫حياتها‪ ،‬إلا أن إيمانها بمبادئها بدأ يتزعزع عندما‬
     ‫واعتمادها على بنيات سردية متنوعة‪ ،‬شفاهية‬        ‫علمت بمقتل «المخلّص»‪ ،‬المولود في شيراز‪ ،‬والذي‬
  ‫وكتابية‪ ،‬وعلى تعددية صوتية للرواة وللأصوات‬
    ‫السردية وقدرة على ابتكار تاريخ سردي بديل‪،‬‬             ‫يفترض فيه أن يتأبى على الموت‪ ،‬ولذا وقفت‬
‫يحتفي بالهامشي‪ ،‬بعي ًدا عن التاريخ الرسمي‪ .‬ومع‬          ‫في لحظاتها الاخيرة وهي تواجه محنة الصدمة‬
  ‫أن المؤلفة حاولت التمويه على أسرار صنعتها‪ ،‬إلا‬      ‫والخيبة التي واجهتتها‪« :‬تأملت هيأتها في المراة‪:‬‬
    ‫أنها تركت بعض أسرارها مدونة في «نوافذها»‬         ‫كم تغيرت ملامحي‪ ،‬وعبرت بي السنوات سريعة‪،‬‬
    ‫التي تختم بها فصولها‪ ،‬والتي تشير إلى طبيعة‬       ‫أيعقل أن يموت المخلص الذي أرسله الله لخلاص‬
   ‫الرواة‪ ،‬ومنهم الراوية الأخيرة التي دونت النص‬
  ‫الكتابي‪ ،‬والتي كشفت عن ثقافة عصرية وحديثة‬                                      ‫عباده؟»‪( .‬ص‪)291‬‬
      ‫من خلال إشارتها إلى أسماء أدبية وتاريخية‬       ‫ومرت بها لحظات من القلق الوجودي والإيماني‪،‬‬
    ‫حقيقية تكشف عن تناصات مهمة تؤكد المنحى‬
‫الميتاسردي للرواية‪« :‬التقيت عند باب مكتبة التاريخ‬        ‫وهي تراجع سيرتها متسائلة بمرارة «أتراني‬
 ‫الشاعر التركي ناظم حكمت الذي أثنى على السيدة‬        ‫زللت في اختيار دربي‪ ،‬فظللت؟»‪( .‬ص‪ )291‬لكنها‬
 ‫التي أنقل أخبارها‪ .‬كان الشاعر برفقة العلامة علي‬      ‫ظلت بعد وفاتها رم ًزا من رموز التمرد والحرية‪،‬‬
  ‫الوردي‪ ،‬فأشارا عليَّ ببعض المصادر»‪( .‬ص‪)171‬‬         ‫وتحولت إلى أسطورة يتناقلها الأصدقاء والأعداء‪،‬‬
     ‫وفي حدود متابعتي لتاريخ الرواية العراقية لم‬    ‫وراح يتهامس اتباعها س ًّرا‪« :‬ستظهر ثانية‪ ،‬وتعود‬
   ‫أجد رواية مقاربة لها في أجوائها وخصوصيتها‪،‬‬        ‫بعد غيبتها‪ ،‬فلم يقتلها أحد»‪( .‬ص‪ )293‬وأقسمت‬
   ‫ربما باستثناء رواية «باب الفرج» للروائي زهير‬
‫الجزائري والتي صدرت مؤخ ًرا‪ ،‬لأنها تدور في بيئة‬        ‫مربيتها زعفران‪ ،‬وراوية سيرتها الرئيسية أنها‬
  ‫ثقافية ودينية متشابهة في مدينة النجف في مطلع‬         ‫«لمحت وجه سيدتها الصغرى على سطح القمر‪،‬‬
  ‫القرن العشرين‪ ،‬وتحدي ًدا بين احتلالين‪ :‬الاحتلال‬      ‫وانتشر الخبر في قزوين‪ .‬مما دفع الناس في كل‬
   ‫العثماني والاحتلال الإنجليزي للعراق‪ .‬ونجد في‬      ‫مكان إلى التطلع إلى القمر في طقوس شهرية‪ ،‬كلما‬
‫رواية زهير الجزائري الكثير من عناصر التماثل في‬
  ‫المرويات والأجواء والتقاليد والعادات الاجتماعية‬        ‫بدا القمر دورته»‪( .‬ص‪ )293‬وهكذا أصبحت‬
      ‫والفقهية‪ ،‬ربما أملتها طبيعة التجربة الروائية‬       ‫قمر الزمان «قم ًرا لكل الأزمنة» كما قالت هي‪.‬‬

                 ‫وحاضنتها الاجتماعية والمذهبية‪.‬‬                                          ‫(ص‪)209‬‬
    ‫رواية «منازل ح‪ »17‬للروائية رغد السهيل تمثل‬        ‫وعلى الرغم من المسار الخطي العام لبناء الرواية‬
    ‫إضافة جريئة لسفر الرواية الحداثية في العراق‬        ‫وحركتها الزمنية الخطية‪ ،‬وتصاعدها زمنيًّا منذ‬

      ‫ولمؤلفتها‪ ،‬وتكشف عن عمق ثقافتها السردية‬            ‫الطفولة والمراهقة والنضج وصراعها الفكري‬
      ‫والتاريخية والفكرية‪ ،‬وإتقانها لشروط اللعبة‬       ‫وبالتالي موتها‪ ،‬والتي كانت تتوافق مع «منازل»‬
                                                    ‫القمر‪ ،‬فان المؤلفة‪ ،‬على الرغم من ذلك‪ ،‬كانت تخرق‬
               ‫السردية الحداثية وما بعد الحداثية‬     ‫هذه القاعدة السردية بين الحين والآخر‪ ،‬بالعودة‬
                                                      ‫إلى الماضي‪ ،‬أو القفز إلى المستقبل ومن ثم العودة‬
                                                       ‫إلى المسار الخطي للسرد‪ .‬فالرواية‪ ،‬مث ًل‪ ،‬لا تبدأ‬
                                                       ‫بولادة البطلة‪ ،‬بل تلتقط لحظة زمنية لاحقة من‬
                                                      ‫حياة البطلة‪ ،‬عندما كانت في الخامسة من عمرها‬
   18   19   20   21   22   23   24   25   26   27   28