Page 28 - ميريت الثقافية- العدد رقم 22 أكتوبر 2020
P. 28

‫العـدد ‪١٩‬‬   ‫‪26‬‬

                                                                                ‫يوليو ‪٢٠٢٠‬‬

  ‫ُيبديها‪ ،‬فهو في الأول والمنتهى جاء غاز ًيا على متن‬                                  ‫شاعر وليس مثق ًفا وف ًقا لمفاهيم بندا وسارتر‬
                                   ‫ناقلة حربيّة‪.‬‬                                     ‫وإدوارد سعيد‪ ،‬عن المثقف‪ ،‬إذا ما تغاضينا عن‬
                                                                                    ‫مفهوم جرامشي ‪-‬ال َم ّطاط‪ -‬للمثقف الذي ُيدخل‬
       ‫الفتاة الموهوبة موسيقيًّا والتي تعزف أجمل‬
 ‫المقطوعات‪ ،‬صارت أشبه بالتمثال‪ ،‬فالضابط «كان‬                                           ‫تحت إهابه كل أطياف المجتمع‪ ،‬بلا استثناء‪.‬‬
   ‫ينظر لها‪ ،‬لا كما كان ينظر رجل إلى امرأة‪ ،‬ولكن‬                                   ‫وهناك فارق كبير بين َمن يحمل القيم والأفكار‪،‬‬
   ‫كما لو كان يتأ ّمل تمثا ًل» (ص‪ .)33‬طيلة أحداث‬                                 ‫وبين َمن ير ّددها كشعارات ب َّرا َقة دون أن يتمثّلها‪،‬‬
                                                                                ‫فليس كل الأدباء مثقفين (إلا عند جرامشي)‪ ،‬وليس‬
     ‫الرواية التي استمرت أكثر من ستة أشهر‪ ،‬لم‬                                       ‫كل المثقفين أدباء‪ ،‬هذه قاعدة و ُمسلَّمة معروفة‪،‬‬
  ‫نسمع لها صو ًتا أو حتى رفع ْت رأسها عن الثوب‬                                   ‫فالثقافة شيء والإبداع (أو الموهبة إن شئنا الدقة)‬
‫الذي ُتط ّرزه‪ ،‬باستثناء لحظة وداع الضابط‪ ،‬فرفعت‬
 ‫لأ ّول مرة رأسها عن الثوب‪ ،‬وقالت في هدوء شديد‬                                                                       ‫شيء آخر‪.‬‬
‫«ودا ًعا»‪ .‬وإزاء ال ّصمت الذي احتمت به أو تسربلت‬                                ‫المثقف الحقيقي بتعبير إدوارد سعيد أو جوليان بندا‬

    ‫به وغياب الكلام‪ ،‬فلم يعد في مقدور ال ّراوي إ ّل‬                              ‫هو الذي يدفع إلى التغيير وهو ما تح ّقق في نموذج‬
  ‫التركيز على حركتها ونظرات عينيها‪ ،‬وتصرفاتها‬                                     ‫الضابط الذي كان مثق ًفا حقيقيًّا‪ ،‬وبنا ًء على موقعه‬
‫التي كانت ‪-‬جميعها‪ -‬تعبي ًرا صامتًا عن رفض هذا‬                                     ‫بالقرب من ال ُّسلطة (الذي ُي ْدركه بكونه مثق ًفا) أو‬
 ‫االلبويجت‪،‬ود‪،‬وححدتيثىهوالللويليّصلاهرما ُمتعحنق ًقناف‪،‬سبهوجووعادئهلتدها‪،‬خولهو‬    ‫أحد أجهزتها‪ /‬أدواتها‪ ،‬وقد َحلُ َم ‪-‬بل نقول أفرط‬
                                                                                 ‫في ُح ْلمه‪ -‬بالتغيير وإنهاء الحرب‪ ،‬وأن يكون الح ّب‬
                              ‫واقف أمام المدفأة‪.‬‬                                 ‫–المتبادل‪ -‬هو ال ّرابط بين البلدين بعد الا ّتحاد‪ ،‬وأن‬
    ‫يبدأ الضابط مغادرة الحيز المكاني الذي اختاره‬                                 ‫تنهض ألمانيا بفرنسا‪ ،‬وغيرها من أحلام اصطدمت‬
   ‫(الغرفة الواسعة في الطابق الأعلى)‪ ،‬ليأخذ حركة‬                                  ‫بسقف وأحلام ال َّساسة‪ ،‬الذين لا يحلمون ولا هم‬
‫أكثر حرية في البيت‪ ،‬بأن صار يدخل مباشرة دون‬
‫استئذان‪ ،‬كما أنه عندما تصادف وأن ابتلت ملابسه‬                                              ‫شعراء رومانسيون كما قال له صديقه‪.‬‬
  ‫‪-‬بسبب الأمطار‪ -‬جاء وجلس بالقرب من المدفأة‪،‬‬                                        ‫ومن ث ّم فما إن رأى الحقيقة ‪-‬الم ّرة– ُمج ّسدة في‬
    ‫و َك َس َر ال َّصمت المفروض عليه من قبل أصحاب‬                               ‫الجنود المنتصرين في باريس‪ ،‬حتى اختار أن يذهب‬
    ‫البيت‪ ،‬وهو ما يشير إلى أساليب‪ /‬آليات تغلغل‬                                   ‫إلى الجحيم‪ ،‬لا أن يبقى شاه َد عيا ٍن على المأساة‪ ،‬أو‬
   ‫ال ّسلطة المُعادية وصو ًل إلى الهيمنة والاستحواذ‪.‬‬                              ‫أيننب ُغييشاأرن َك ُنفخيلِّهاَصعاللى َونححوشمامنصُاس َ ِّمحها»ل‪،‬أخو‪:‬م«رإةنهثانُسي ٌّةم‪،‬‬
 ‫فجلس ورا َح يتحدث إليهما حديثًا أشبه بمونولوج‬                                    ‫يصرخ بصورة أكثر فظاظة تكشف الحقد الدفين‪،‬‬
  ‫ذاتي‪ ،‬الغريب أن لا أحد كان يرد عليه أو يقاطعه‪،‬‬                                ‫وأن شعارات الشعر والرومانسية ما هي إلا أوهام‪:‬‬
                                                                                  ‫«سوف نجعلهم يبيعوننا أرواحهم في مقابل طبق‬
                          ‫أو حتى يأبه بما يقول‪.‬‬
   ‫ومع هذا فقد ا ّتخذ الضابط ذرائع‪ /‬آليات كثيرة‬                                                            ‫من العدس»‪( .‬ص‪)69‬‬
  ‫لكسر حالة ال ّصمت وما يقابلها من إبعاد وإقصاء‬
    ‫لوجوده مع كونه صار شري ًكا ‪-‬بالإكراه‪ -‬لهم‬                                               ‫الفتاة الصامتة‬

      ‫في المنزل‪ ،‬فسعى إلى التق ُّرب بالفضفضة التي‬                                  ‫الرواية مروية من قبل العم العجوز‪ ،‬بصفته هو‬
  ‫أشبه بالبوح وهو يحكي عن بلده ومسقط رأسه‪،‬‬                                        ‫ال ّراوي الأساس ّي‪ ،‬والوحيد وناقل كلام الضابط‪،‬‬
  ‫وحبّه لفرنسا وشغفه بأدبها‪ ،‬وأمله في أن تنهض‬                                      ‫أما شخصية ابنة الأخ فهي صامتة تتلفح برداء‬
  ‫ِمن عثرتها‪ ،‬ووئامها مع ألمانيا‪ ،‬وتارة يتحدث عن‬                                ‫ال ّصمت وكأ ّنها كما وصفها ال ّراوي «تمثال ُمتحرك‪،‬‬
‫الموسيقى وعن عائلته وأخيه ال ّشاعر المرهف الح ّس‪،‬‬                                ‫ولكنه تمثال على أ ّية حال»‪ ،‬وهذا الوصف لا يتأ ّتى‬
    ‫وهو في كل هذا يتح ّدث كأنه إلى نفسه‪ ،‬فلا ر ّدة‬                                ‫َعشوائيًّا‪ ،‬وإنما هو ر ّدة فعل ورفض للحديث مع‬
  ‫فع ٍل أو تعقيب أو تعليق‪ .‬يتحدث ث ّم قبل أ ْن يأوي‬                                 ‫المعتدي‪ /‬الغازي‪ ،‬أ ًّيا كانت وسائل التق ُّرب التي‬

    ‫إلى فراشه يقول جملته الأثيرة التي لا تتغير أو‬
   23   24   25   26   27   28   29   30   31   32   33