Page 185 - m
P. 185

‫‪183‬‬  ‫الملف الثقـافي‬

 ‫فيقول العميد‪« :‬ثم رفع الصبي‬        ‫التي بين الحالين من شأنها أن‬     ‫في ظله دون القدرة على دفعه أو‬
    ‫رأسه إلى وجه صالح فرأى‬            ‫تنقل المعنى من منطقة العقل‬                     ‫التملص منه‪.‬‬
                                      ‫والتفكير إلى منطقة الوجدان‬
 ‫بؤ ًسا شاحبًا يشيع فيه‪ ،‬ورأى‬            ‫والشعور‪ ،‬وقد تكرر هذا‬        ‫ومعظم أعمال العميد تتخذ من‬
  ‫ابتسامة فيها كثير من الحزن‪،‬‬                                          ‫البؤس موضو ًعا لها‪ ،‬نجد هذا‬
                                   ‫الأسلوب كثي ًرا على مدار قصص‬         ‫في «دعاء الكروان» و»ماوراء‬
   ‫وكثير من أمل‪ ،‬ورأى عينين‬           ‫المجموعة‪ .‬وبجانب ذلك يلجأ‬       ‫النهر» و»المعذبون في الأرض»‪،‬‬
 ‫تدوران تنظران إلى ما حولهما‪،‬‬        ‫العميد إلى أسلوب آخر لا يقل‬
 ‫تنخفضان حينًا إلى هذا الحديد‬                                              ‫ونجده عنوا ًنا في «شجرة‬
                                    ‫في تأثيره وفاعليته عن أسلوب‬                         ‫البؤس»‪.‬‬
   ‫الملقي على الأرض‪ ،‬وترتفعان‬         ‫المقابلة السالف‪ ،‬وهو وصف‬
    ‫حينًا إلى قطعة السكر في يد‬                                          ‫فماذا يعني «البؤس» عند طه‬
  ‫رفيقه‪ ،‬وترتفعان بعد ذلك إلى‬       ‫حال البؤس كما يتبدى في وعي‬                           ‫حسين؟‬
‫عناقيد الكرم هذه التي تتدلى على‬        ‫الأغنياء‪ ،‬وهنا لا نكون إزاء‬
‫الجدران‪ ،‬وتمتد على هذه العيدان‬                                                  ‫‪ -1‬معنى البؤس‪:‬‬
                                    ‫مقابلة وإنما نكون إزاء مزاوجة‬          ‫إذا أردنا أن نعرف معنى‬
      ‫التي ُنصبت لتحملها»(‪.)19‬‬       ‫واندماج بين ذات الغني وبين‬         ‫«البؤس» عند طه حسين فلن‬
  ‫ويعود العميد لأسلوب المقابلة‬       ‫ذات البائس كموضوع لمعرفة‬         ‫نجد أنسب من الأوصاف التي‬
  ‫ليصف حال الصبي الغني في‬           ‫هذه الذات‪ .‬ففي قصة «صالح»‬          ‫أوردها في مجموعة «المعذبون‬
                                      ‫يصف حال صالح كما يراها‬              ‫في الأرض» لتصوير حياة‬
    ‫مقابل حال «صالح» البائس‬            ‫رفيقه الصبي المنتمي لعائلة‬     ‫البائسين في قصص المجموعة‪.‬‬
 ‫الفقير ليستخلص رؤية فلسفية‬          ‫من الأغنياء‪ ،‬فيقول‪« :‬وقد نظر‬       ‫ففي المقدمة كان يصف حال‬
  ‫وجودية لمعنى البؤس‪ ،‬فيقول‪:‬‬         ‫الصبي إلى صالح فراعه ثوبه‬       ‫البائسين وحال الأغنياء في نوع‬
  ‫«لم يوجد صالح قط لأنه يملأ‬        ‫الممزق قد ظهر منه صدره أكثر‬         ‫من المقابلة ليكشف عن حجم‬
                                                                        ‫الظلم الاجتماعي المهيمن على‬
   ‫المملكة المصرية‪ ،‬وإذا أسرف‬      ‫مما ينبغي‪ ،‬وقد انشق عنه كتفه‬        ‫الحياه في البلاد‪ ،‬فيقول‪« :‬ولم‬
    ‫الشيء في الوجود فهو غير‬        ‫فظهرتا منه نابيتين‪ ،‬والثوب على‬     ‫يكن البؤس يرضى أن يصحب‬
‫موجود‪ ،‬سوا ًء أرضيت الفلسفة‬                                          ‫هذا الفريق إلا إذا تبعه أصحابه‬
 ‫عن هذا الكلام أم لم ترض‪ .‬أما‬        ‫ذلك رث قذر‪ُ ،‬يظهر من جسم‬        ‫من الجوع والعري والعلل والذل‬
   ‫أمين فموجود من غير شك‪،‬‬             ‫الصبي أكثر مما يخفي‪ ،‬كأنه‬        ‫والهوان‪ ،‬والكمد الذي يضني‬
  ‫لأننا نراه ولا نكاد نرى غيره‪،‬‬    ‫أسمال قد ُوصل بعضها ببعض‬             ‫ولا يغني‪ ،‬والهم الذي يسوء‬
    ‫لأنه عظيم الخطر‪ ،‬فهو هذا‬                                             ‫وينوء‪ ..‬فأما الفريق الثاني‪،‬‬
  ‫الصبي الذي لا ينام جائ ًعا إذا‬        ‫وص ًل ما‪ ،‬و ُعلِّقت على هذا‬     ‫فريق تلك القلة القليلة‪ ..‬كان‬
 ‫أقبل الليل‪ ،‬ولا يغدو طاو ًيا على‬  ‫الجسم الضئيل الناحل تعلي ًقا ما‪،‬‬    ‫يشتهى فيبلغ ما يشتهي حتى‬
    ‫المدرسة أو على الكتَّاب‪ ،‬ولا‬                                     ‫سئم شهواته‪ ،‬وكان يريد فيبلغ‬
    ‫يطول انتظاره للغداء إذا آن‬      ‫لتستر منه ما تستطيع‪ ،‬وليقال‬       ‫ما يريد حتى مل إرادته‪ ،‬وكان‬
‫وقت الغداء‪ ،‬ولا ينبغي أن يطول‬      ‫إن صاحبه لا يمضي به متجر ًدا‬       ‫قلبه قد قسا فهو كالحجارة أو‬
  ‫انتظاره للعشاء إذا أقبل الليل‪،‬‬
 ‫لأن من حقه أن يتناول الطعام‬                        ‫عريا ًنا»(‪.)18‬‬                ‫أشد قسوة»(‪.)17‬‬
  ‫في إ َّبانه‪ ،‬وأن يأخذ قسطه من‬    ‫ويلاحظ أن الوصف هنا ينص ُّب‬            ‫والمقابلة بين حال الأغنياء‬
  ‫النوم حتى لا تتعرض صحته‬                                              ‫وحال البؤساء هي واحدة من‬
  ‫الغالية لبعض ما يؤذيها»(‪.)20‬‬       ‫على مظاهر البؤس الخارجية‪،‬‬          ‫الأساليب السردية التي يلجأ‬
  ‫وبالرغم من أن «البؤس» عند‬         ‫وهي المظاهر التي أثارت عاطفة‬     ‫إليها العميد من أجل إبراز معنى‬
     ‫طه حسين يبدو من خلال‬                                              ‫البؤس‪ ،‬لأن المفارقة الصارخة‬
   ‫أوصافه العديدة في المجموعة‬        ‫رفيق «صالح»‪ ،‬الصبي سليل‬
                                      ‫الأغنياء‪ ،‬فجعلته يمعن النظر‬

                                        ‫في وجه «صالح» ليتجاوز‬
                                      ‫المظاهر الخارجية ويصل إلى‬
                                   ‫الأبعاد الداخلية للبؤس المتجسد‬
                                        ‫أمامه في شخص «صالح»‪،‬‬
   180   181   182   183   184   185   186   187   188   189   190