Page 194 - m
P. 194

‫العـدد ‪59‬‬          ‫‪192‬‬

                                                ‫نوفمبر ‪٢٠٢3‬‬   ‫الغزل العذري في البادية‪ ،‬إذ‬
                                                             ‫يرى أن أهل البادية الحجازية‬
‫طه حسين في الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام ‪1951‬‬
                                                                  ‫كانوا يحسون شيئًا من‬
     ‫فيها العذريون‪ ،‬وتمثي ًل‬      ‫البادية وفقرها أحدثا هذا‬     ‫اليأس والحزن؛ لأن الحكام‬
‫للتغير الذي طرأ على المجتمع‬     ‫الغزل العفيف على حين قد‬
                              ‫أحدث يأس الحاضرة وغناها‬              ‫الأمويين لم يشركوهم‬
  ‫البدوي الذي احتضن هذه‬       ‫هذا الغزل العابث الماجن”(‪.)11‬‬      ‫في أمور السياسة وكانوا‬
‫الظاهرة‪ .‬بعبارة أخرى يمكن‬     ‫ثم يحاول أن يوضح أثر بيئة‬         ‫يعاملونهم معاملة قاسية‪،‬‬
                                 ‫البادية على الشعر العذري‬      ‫بالإضافة إلى الفقر الشديد‬
   ‫القول إن تلقي طه حسين‬         ‫فيقول‪“ :‬وما يمتاز به هذا‬    ‫الذي كانوا يعيشون فيه‪ ،‬هذا‬
  ‫هنا مبني على مبدأ أساسي‬                                     ‫الفقر الذي لم يتح لهم اللهو‬
  ‫يرى أن العمل الأدبي مرآة‬          ‫المزاج شيء من الحزن‬       ‫مثلما حدث مع أبناء الحضر‬
  ‫للبيئة التي أبدع فيها‪ .‬وقد‬    ‫الساذج المؤلم غير المحدود‬        ‫الحجازي‪ ،‬وبجوار هذين‬
‫أفضى به هذا المبدأ إلى بعض‬      ‫ولا البين‪ ،‬هذا الحزن العام‬      ‫الأمرين تأثروا بالإسلام‪،‬‬
                               ‫الغامض الذي نستطيع نحن‬           ‫وبالقرآن خاصة‪ ،‬فنشأ في‬
     ‫النتائج منها –على سبيل‬     ‫بوجه من الوجوه أن نتبين‬         ‫نفوسهم شيء من التقوى‬
‫المثال– حديثه عن العلاقة بين‬  ‫أسبابه في هذا اليأس وفي هذا‬         ‫فيه سذاجة بدوية ورقة‬
‫الشعر العذري وفن القصص‬           ‫الفقر وفي هذه العزلة التي‬      ‫إسلامية‪ ،‬وانصرف هؤلاء‬
                              ‫كانت تحول بين هؤلاء الناس‬       ‫الناس عن حروبهم وأسباب‬
 ‫الغرامي‪ ،‬فهو يثبت تارة أن‬     ‫وبين العمل السياسي وغير‬       ‫لهوهم الجاهلي‪ ،‬كما انصرفوا‬
‫الرواة وجدوا شع ًرا فنسجوا‬                                   ‫عن الحياة العملية في الإسلام‬
‫حوله الأقاصيص والحكايات‬                    ‫السياسي”(‪.)12‬‬         ‫إلى أنفسهم‪ ،‬انصرفوا إلى‬
‫الغرامية‪ ،‬ويقول تارة أخرى‬       ‫يتضح لنا مما سبق أن طه‬            ‫شيء من المثل الأعلى في‬
                                ‫حسين ع َّد الظاهرة العذرية‬   ‫الحياة الخلقية‪ .‬ومن ثم ظهر‬
   ‫أن الرواة قد وضعوا هذا‬        ‫تعبي ًرا عن العصر الأموي‬       ‫الغزل العفيف الذي هو في‬
 ‫الشعر ونسجوه كي يحبكوا‬                                         ‫حقيقة الأمر مرآة صادقة‬
                                  ‫الذي نشأت فيه‪ ،‬وتعبي ًرا‬    ‫لطموح هذه البادية إلى المثل‬
         ‫به بعض القصص‪.‬‬            ‫عن البيئة التي كان يحيا‬    ‫الأعلى من جهة‪ ،‬ولبراءتها من‬
    ‫على هذا النحو تألفت في‬                                   ‫ألوان الفساد التي كانت تغمر‬
   ‫قراءة طه حسين للظاهرة‬                                        ‫أهل مكة والمدينة من جهة‬
     ‫العذرية أمشاج منهجية‬
                                                                             ‫أخرى”(‪.)10‬‬
                                                               ‫ويؤكد ذلك في موضع آخر‬
                                                              ‫حينما يتحدث عن نشأة هذا‬
                                                              ‫الغزل إذ يقول‪“ :‬إنهم كانوا‬
                                                                ‫في شيء من اليأس والفقر‬
                                                                ‫غير قليل‪ ،‬وإن هذا اليأس‬
                                                                ‫والفقر قد أحدثا في البادية‬
                                                              ‫مثل ما أحدث اليأس والغنى‬
                                                               ‫في الحاضرة من نشأة هذا‬
                                                                ‫الفن الشعري‪ .‬ولكن يأس‬
   189   190   191   192   193   194   195   196   197   198   199