Page 199 - m
P. 199

‫‪197‬‬  ‫الملف الثقـافي‬

    ‫العمومي يتضمن تقري ًرا‬                ‫مشرو ًعا تنوير ًّيا متكام ًل‪.‬‬        ‫المناهج المتبعة في قراءة‬
  ‫رفعه علماء الجامع الأزهر‬                 ‫عاش طه حسين في فترة‬            ‫التراث في مقابل تماهي الأنا‬
 ‫عن كتاب «طه حسين» الذي‬                   ‫تحول مصر الليبرالي بعد‬           ‫وسيادة الاستبداد والعيش‬
   ‫ك َّذب فيه القرآن صراحة‪.‬‬                 ‫ثورة ‪ ،1919‬حيث نشأة‬            ‫في غيبوبة الماضي وتقديس‬
                                          ‫الروح القومية‪ ،‬والأحزاب‬
    ‫وطلب الشيخ تقديم «طه‬                 ‫السياسية المعاصرة‪ ،‬وروح‬                 ‫التراث‪ ،‬وكان سؤاله‬
     ‫حسين» إلى المحاكمة(‪.)3‬‬                                               ‫الأساسي هو سؤال التنوير‬
      ‫وهنا يتضح لنا ملم ًحا‬                 ‫النهضة االحديثة‪ ،‬حيث‬           ‫بين جدل الوافد والموروث‪.‬‬
‫تنوير ًّيا ها ًّما يكمن في موقف‬            ‫خروج المرأة إلى الشارع‪،‬‬        ‫فألقى حج ًرا ضخ ًما في المياه‬
      ‫القاضي المستنير الذي‬               ‫وانتشار الجرائد والمطابع‪،‬‬
   ‫لم يقف عقبة أمام البحث‬                  ‫وصدور دستور ‪..1923‬‬                 ‫الفكرية العربية الراكدة‬
  ‫العلمي‪ ،‬على الرغم من عدم‬                ‫إلخ‪ ،‬فقد كانت تلك الفترة‬       ‫المستغرقة في ُسباتها التراثي‬
‫اتفاقه مع آراء المؤلف‪ ،‬وكيف‬            ‫بمثابة ثورة ثقافية وسياسية‬         ‫التليد‪ ،‬بطرح أسئلته الجريئة‬
   ‫بدا هذا القاضي مستني ًرا‬               ‫واجتماعية‪ ،‬وقد سعى طه‬          ‫التي قاوم من خلالها التخلف‬
    ‫مل ًّما إلما ًما رائ ًعا بالتاريخ‬    ‫حسين أن يكون جز ًءا ها ًّما‬
   ‫والفلسفة والأدب‪ ،‬وكيف‬                ‫وفاع ًل في تلك الثورة‪ ،‬حتى‬         ‫والرجعية والجمود والفكر‬
   ‫جاءت أسئلة الاستجواب‪،‬‬               ‫صار نموذ ًجا للمثقف الثوري‬           ‫المتزمت المتحجر‪ ،‬داعيًا إلى‬
 ‫وكيف َت َقبَّ َل الإجابات عليها‬           ‫وقد تجلى ذلك في مبحثه‬
    ‫بتفهم عميق لا يقف عند‬              ‫الشهير «في الشعر الجاهلي»‪.‬‬                 ‫التنوير والحداثة(‪.)2‬‬
‫مراميها القريبة بل يصل إلى‬                                                 ‫شكلت الجهود الفكرية لطه‬
 ‫استيعاب مقاصدها البعيدة‪،‬‬                ‫محنة طه حسين‬                     ‫حسين‪ ،‬أحد ملامح مشروع‬
 ‫وبعد أن حقق طوي ًل مع طه‬                 ‫وبداية مشروعه‬
   ‫حسين وجادله‪ ،‬قرر حفظ‬                                                      ‫التنوير العربي في القرن‬
                                             ‫التنويري‬                      ‫العشرين‪ ،‬وما زالت أعماله‬
             ‫القضية إدار ًّيا‪.‬‬                                            ‫الأدبية والفكرية تمثل قاعدة‬
 ‫كما تعكس هذه المحنة أي ًضا‬              ‫تعد محنة «طه حسين» هي‬             ‫يمكن البناء عليها لتأسيس‬
                                           ‫البداية الحقيقة لمشروعه‬
    ‫ُبع ًدا آخر هو عدم تنوير‬              ‫التنويري‪ ،‬لما لها من أبعاد‬         ‫مشروع ثقافي جديد‪ .‬فلم‬
 ‫الشعب والقوى الجماهيرية‬                                                        ‫تكن أفكار طه حسين‬
   ‫والسياسية‪ ،‬فرغم أن هذه‬               ‫تنويرية مهمة‪ ،‬كما أنها تبين‬
‫الجماهير أثبتت مقدرة نادرة‬              ‫لنا أهم أسباب ضعف حركة‬            ‫منفصلة عن الواقع بل كانت‬
‫في الصمود ومواجهة المحتل‪،‬‬                                                    ‫متماسة معه‪ ،‬ونابعة من‬
                                            ‫التنوير المصري خاصة‪،‬‬
    ‫إلا أنها فشلت في احتواء‬            ‫والعربي عامة‪ .‬فكانت البداية‬         ‫القضايا والإشكاليات التي‬
 ‫الحرية الفكرية‪ ،‬التي أصبح‬                                                  ‫يمر بها‪ ،‬لذا جاءت أفكاره‬
                                          ‫بعد نشر كتابه «في الشعر‬           ‫في إطار تقدمي تهدف إلى‬
     ‫لا يدافع عنها إلا النخبة‬           ‫الجاهلي» بعدة أسابيع‪ ،‬حيث‬             ‫نهضة حقيقية تقوم على‬
  ‫المثقفة وهي نسبة محدودة‬              ‫تلقى النائب العمومي بلاغات‬           ‫علاقة جدلية بين الإنسان‬
                                                                             ‫ومحيطه الاجتماعي‪ ،‬ولم‬
                      ‫ج ًّدا‪.‬‬             ‫تفيد بأن «طه حسين» قد‬          ‫يأت ذلك من فراغ‪ ،‬بل نتيجة‬
‫حيث قام أحد أعضاء مجلس‬                 ‫تع َّدى في كتابه هذا على الدين‬    ‫لتراكم معرفي عميق‪ ،‬وثقافات‬
                                       ‫الإسلامي‪ ،‬كما جاء بتاريخ ‪5‬‬         ‫متلاطمة‪ ،‬غاص فيها العميد‬
    ‫النواب بتقديم استجواب‬              ‫يونيو ‪ 1926‬خطاب من شيخ‬                ‫حتى أصبح موسوعة في‬
  ‫إلى البرلمان المصري يطالب‬
                                           ‫الجامع الأزهر إلى النائب‬           ‫العلوم والفنون والآداب‬
    ‫فيه بطرد طه حسين من‬                                                  ‫الفرنسية واللاتينية والعربية‬
  ‫الجامعة المصرية‪ .‬وقد جاء‬                                                ‫بالتأكيد‪ ،‬ومن ثم فهو المفكر‬

                                                                            ‫الذي استطاع أن يقدم لنا‬
   194   195   196   197   198   199   200   201   202   203   204