Page 204 - m
P. 204
العـدد 59 202
نوفمبر ٢٠٢3 الآخر للحرية السياسية،
كما أنها في الوقت ذاته
عقولنا بما يلائم هذه القومية ولا حرية بلا تنوير ،ولذلك
وهذا الدين ،وهل أفسد علم كانت الحرية مسألة أصيلة هي السبيل المُ َعبَّد للوصول
القدماء شيء غير هذا؟ كان لديه ،ملكت عليه كل أموره، إلى هذه الحرية السياسية
القدماء عر ًبا يتعصبون ووقف عليها حياته ،وصار
للعرب ،أو كانوا عج ًما شغفه بالكتابة مرهو ًنا بها، والحفاظ عليها(.)12
يتعصبون على العرب ،فلم بيد أن الحرية السياسية هي
يبرأ علمهم من الفساد؛ لأن فهو القائل« :كل الناس
المتعصبين للعرب غلوا في يعلمون أن الأدب لا قيمة القيمة الأبرز في منهج طه
تمجيدهم وإكبارهم فأسرفوا له إذا فقد الحرية» ،ومن ثم حسين التنويري؛ إذ إنها من
على أنفسهم وعلى العلم، نجده في جل كتاباته يجعل لواز َمه ،فإن لم تكن موجودة
ولأن المتعصبين على العرب فلا تنوير ،مهما كانت قيمة
الحرية هدفه ومقصده. الأفكار التي يطرحها المفكر
غلوا في تحقيرهم وإصغارهم
فأسرفوا على أنفسهم وعلى المنهج النقدي أو المتنور ،فلا تنوير أو
العلم أي ًضا»(.)13 عند طه حسين نهضة دون حرية سياسية.
وعلى هذا النحو ،فإن والحرية التي يقصدها طه
الغاية المعرفية التي ينطلق كشف طه حسين من البداية
منها طه حسين هي تمييز المنهجية التي سوف يتبعها حسين ليست هي الحرية
الخطاب العلمي من الخطاب في كتابه الأول «في الشعر الفوضوية ،ولكنها الحرية
الديني -الاعتقادي ،وتحديد المسؤولة ،والحرية المحدودة
الصلة بينهما ،فالعلمي الجاهلي» ،فذكر أنه يتبنى بحدود وقواعد ،فإذا كانت
مجاله الشك ،وهو خاضع منهج ديكارت القائم على
للتطوير والبحث المستمرين، رد كل الأفكار المسبقة أثناء الحرية لازمة من لوازم
ووسيلته المنهج العلمي، البحث ،وأن يتجرد الباحث الإبداع فإنها تقف عند حدود
وغايته اليقين البرهاني ،في من كل شيء كان يعلمه من
حين أن الخطاب الديني- قبل ،وأن يستقبل موضوع لا يجوز لها أن تتخطاها في
الاعتقادي :مجاله التسليم، بحثه خالي الذهن مما قيل سبيل ممارسته للحرية ،فقد
وهو خاضع لمبدأ سكوني حلم بمجتمع سوي يسترد
لا تطوري ،وغايته إيمانية فيه خل ًوا تا ًّما ،إذ يجب وجهه الأصيل ممن شوهوه،
تسليمية؛ فالفرق بينهما هو علينا حين نستقبل البحث
عن الأدب العلمي وتاريخه وينتشل قيمه من مستنقع
فرق بين مذهب الإيمان الذي اللاقيم الذي فرض عليه
يبعث على الاطمئنان والرضا، أن ننسى قوميتنا وكل
والشك الذي يبعث على القلق مشخصاتها ،وأن ننسى التردي فيه ،مجتمع يحيا فيه
ديننا وكل ما يتصل به ،وأن ويعمل ويأمل ويبدع إنسان
والاضطراب ..ففي المذهب ننسى ما يضاد هذه القومية سوي حر ،يجد القدر المعقول
الاعتقادي نسلم بما هو وما يضاد هذا الدين ،فلا من الحرية والعدل والمساوة،
نتقيد بشيء ولا نذعن لشيء ويؤمن بقيمة العلم وإعمال
راسخ ومتوارث عن الأجداد، إلا مناهج البحث العلمي
فلا يناله تغيير ولا تبديل أما العقل وسيادة القانون،
المذهب العلمي فينقلب العلم الصحيح. ويبتعد تما ًما عن الجهل
ذلك أننا إذا لم نن َس قوميتنا والتخلف والهوان والفوضى،
القديم رأ ًسا على عقب. ومن ثم كان يرى ان الحرية
ومن هذا السياق المعرفي وديننا وكل ما يتصل «تحمل الأحرار أعبا ًء ثقا ًل».
بهما فسنضطر إلى محاباة وهكذا اعتبر طه حسين
وإرضاء العواطف ،وسنغل
قضية الحرية مفتا ًحا
للتنوير ،فلا تنوير بلا حرية،