Page 210 - m
P. 210

‫العـدد ‪59‬‬         ‫‪208‬‬

                                                              ‫نوفمبر ‪٢٠٢3‬‬   ‫دعاء الكروان بين‬
                                                                               ‫طه حسين‬
       ‫المختلفة بين الريف‬             ‫من الصحراء ليتعلموا‬
    ‫والحضر‪ ،‬يحفر غائ ًرا‬              ‫الاستقرار في الأرض‪،‬‬                     ‫وهنري بركات‬
    ‫بين طباع الشخصيات‬             ‫والحياة في أطراف الريف‪،‬‬
‫بعضها البعض‪ ،‬ولا يقيدها‬            ‫ثم يدفعهم فو ٌج آخر فإذا‬                     ‫يتفق «دعاء الكروان»‪،‬‬
    ‫بنظرة متحجرة نمطية‬            ‫هم يمضون أمامهم بطيئًا‪،‬‬                    ‫الأدبي مع السينمائي‪ ،‬في‬
   ‫تربط بينها وبين المكان‬             ‫ينتقلون في أناة ومهل‬                   ‫اختيار البداية التي لجأت‬
    ‫الذي تعيش فيه؛ فهذه‬             ‫من مكان إلى مكان‪ ،‬وهم‬                    ‫إلى التركيز على شخصية‬
    ‫«آمنة» التي عاشت مع‬               ‫يتقدمون نحو الأرض‬                      ‫«آمنة»‪ ،‬التي رأت‪ ،‬وكانت‬
   ‫أمها و»هنادي»‪ ،‬الأخت‬          ‫المتحضرة دائ ًما حتى يبلغوا‬                 ‫رؤيتها هي نقطة التحول‬
‫التي تم الغدر بها‪ ،‬لم تقف‬        ‫حدود البادية أو حدود هذا‬                    ‫في حياتها‪ ،‬بمثل ما كانت‬
     ‫عند حد هذه الأصول‬           ‫الريف المتبدي‪ ،‬وإذا هم على‬                 ‫صرختها صيحة تحذيرية‪،‬‬
 ‫الخشنة التي تنتمي إليها‪،‬‬        ‫شاطئ القناة التي يسمونها‬                  ‫انطلقت ‪-‬على خفوتها‪ -‬أم ًل‬
     ‫والطباع القاسية التي‬                                                     ‫في أن تجد أذ ًنا مصغية‪،‬‬
‫تخلو من العاطفة‪ ،‬بل كان‬                 ‫البحر‪ ،‬ويزعمون أن‬
 ‫انتقالها إلى المدينة‪ ،‬انتقا ًل‬    ‫يوسف هو الذي احتفرها‬                           ‫أو فه ًما واعيًا يلتقط‬
 ‫في الفكر والرؤية‪ ،‬تعلمت‬          ‫في الزمن القديم‪ ،‬فإذا أتيح‬                   ‫معانيها‪ ،‬فتكون البداية‬
    ‫في الفترة الزمنية التي‬       ‫لهم أن يعبروا البحر فقليل‬                  ‫لتغيير حقيقي لتلك الأفكار‬
    ‫قضتها في بيت المأمور‬                                                    ‫البالية التي سادت المجتمع‬
  ‫القراءة والكتابة‪ ،‬وفنون‬             ‫منهم يحتفظ ببداوته‪،‬‬                     ‫وتحكمت في توجيه دفة‬
    ‫الطهي وأشغال الإبرة‪،‬‬           ‫وأكثرهم يفنى في طبقات‬                   ‫حياته‪ .‬وهما في هذا الاتفاق‬
   ‫بل ودخلت إلى عالم لغة‬             ‫الز َّراع ويضيع في عداد‬                  ‫على توجيه الأنظار نحو‬
 ‫أخرى هي اللغة الفرنسية‬                                                       ‫«آمنة»‪ ،‬لتكون البداية في‬
   ‫التي كانت تتعلمها بنت‬                      ‫الفلاحين»(‪.)2‬‬                 ‫عمل إبداعي يناقش قضية‬
  ‫المأمور‪ ،‬فكانت خطواتها‬                 ‫إن شخصية المكان‬                      ‫إنسانية بالدرجة الأولى‪،‬‬
‫تتجه إلى مواكبة هذا العالم‬           ‫هنا تقترن بالشخصية‬                        ‫يحيلان ضمنًا إلى البعد‬
  ‫الجديد الذي دخلت إليه‪،‬‬             ‫الإنسانية‪ ،‬بل وتمنحها‬                    ‫المهم في هذه الشخصية؛‬
‫بينما «هنادي»‪ ،‬وقفت على‬            ‫من خصائصها وأبعادها‪،‬‬                    ‫وهو «الوعي»‪ ،‬الذي تميزت‬
 ‫أعتاب هذا العالم مأخوذة‬                ‫وهو البعد الذي ألح‬                 ‫به عن مثيلاتها ممن خرجن‬
  ‫بإغراءته‪ ،‬ففقدت أعز ما‬             ‫عليه طه حسين في عقد‬                       ‫من تلك البيئة القاسية‪،‬‬
   ‫لديها‪ ،‬ثم فقدت حياتها‬             ‫مقارناته المستمرة بين‬                   ‫التي لا تعرف الاستقرار‪،‬‬
‫على عتبة أفكار البيئة التي‬          ‫حياة القرى‪ ،‬وما يتسلل‬                   ‫وقد جاء التعبير الأدبي في‬
                                       ‫إلى تفاصيلها من فقر‬                   ‫رواية طه حسين عن هذه‬
            ‫خرجت منها‪.‬‬              ‫وخشونة‪ ،‬يطبع الأشياء‬                      ‫البيئة واص ًفا إياها بأنها‬
   ‫ويأتي نموذج «مهندس‬             ‫والأشخاص ويحيل الحياة‬                        ‫«قرية من القرى المعلقة‬
  ‫الري»‪ ،‬كتجسيد للمدنية‬             ‫فيها إلى أيام تتشابه مع‬                   ‫بهذه الهضاب‪ ،‬والتي لا‬
                                 ‫بعضها البعض‪ ،‬وبين حياة‬                     ‫يستقر أهلها فيها إلا ريثما‬
    ‫المادية التي تبحث عن‬            ‫المدينة التي تضفي لمسة‬                 ‫يزيلهم عنها فو ٌج من أفواج‬
    ‫المحسوس في الأشياء‪،‬‬             ‫من الأناقة والجمال على‬                      ‫الأعراب الذين يقبلون‬
    ‫لا عن الكامن فيها من‬           ‫الأشياء‪ ،‬ومن ثم تنعكس‬
                                    ‫على الطباع الإنسانية في‬
      ‫روح‪ ،‬وتأخذ بظاهر‬            ‫التعامل مع الآخر‪ ،‬وهو في‬
  ‫الأمور ولا تتوقف لحظة‬            ‫هذا الإلحاح على الصورة‬
   205   206   207   208   209   210   211   212   213   214   215