Page 211 - m
P. 211

‫‪209‬‬  ‫الملف الثقـافي‬

     ‫ففي رحلة عودتها إلى‬                                  ‫دعاء الكروان‬
  ‫القرية التي أُخرجت منها‬
  ‫هي وأمها و»هنادي» بلا‬       ‫الشهوانية‪ ،‬فقط كان التعليم‬                   ‫عند إدراك معانيها‪ ،‬وطه‬
  ‫ذنب أو جريرة سوي أن‬          ‫هو السبيل إلى التحرر من‬                       ‫حسين في تقديمه لتلك‬
                                  ‫ربقة الأفكار التي تقيد‬                      ‫النماذج‪ ،‬يفتت النظرة‬
   ‫أباهما «لم يكن صاحب‬        ‫الإنسان‪ ،‬وتهيئ انتقاله من‬
    ‫حشمة ووقار وسيرة‬          ‫ظلمة حالكة إلى نور ساطع‬                    ‫النمطية للمكان‪ ،‬وما يمكن‬
‫حسنة‪ ،‬إنما كان زير نساء‬        ‫يدرك معه حقائق الأشياء‪،‬‬                     ‫أن يشكله في التأثير على‬
    ‫يحب الدعابة والمجون‪،‬‬        ‫و»آمنة» كانت الشخصية‬
   ‫ولا يتحرج مما يتحرج‬        ‫التي تدرك وترى بوضوح‪،‬‬                     ‫حياة الأشخاص وسلوكهم؛‬
   ‫منه الرجل المستقيم»(‪،)3‬‬         ‫بل تنتبه لتلك الفروق‬                       ‫فلا «آمنة» استسلمت‬
‫تشكل تلك العودة محطات‬              ‫الدقيقة بين الحياتين؛‬
 ‫مختلفة لهذا الوعي النامي‬                                                   ‫لفكر الريف ومعتقداته‪،‬‬
 ‫لدي الشخصية؛ ففي بيت‬                                                       ‫ولا مهندس الري م َّكنته‬
  ‫العمدة ‪-‬الذي لجأت إليه‬                                                ‫المدنية من التغلب على طباعه‬
    ‫الأم وبناتها في انتظار‬
  ‫الخال الذي يأتي برحاله‬
‫لإتمام العودة‪ -‬نجد مشهد‬
    ‫الطعام كاش ًفا عن تلك‬
  ‫الفروق‪ ،‬فـ»ما أبعد هذه‬
   ‫الأيدي الغليظة الخشنة‬
 ‫قد تقلص جلدها وتقبَّض‪،‬‬
 ‫وهي تغوص بما فيها من‬
  ‫الخبز غو ًصا في القصاع‬
 ‫فتصيب منها ما تستطيع‪،‬‬

      ‫وما بين تلك الأيدي‬
‫الرقيقة الناعمة المترفة التي‬

   ‫لم تكد تمتد إلى الأطباق‬
    ‫إلا هنية‪ ،‬والتي لم تكن‬
  ‫تمس ما في الأطباق بهذه‬
 ‫الأدوات التي يعرفها أهل‬
  ‫المدن خا َّص ًة‪ ،‬بل يعرفها‬
    ‫المترفون من أهل المدن‬

              ‫خاصة»(‪.)4‬‬
 ‫إن هذه التفاصيل الدقيقة‬
 ‫التي يرصدها طه حسين‬
 ‫في نصه الأدبي من خلال‬

     ‫عين «آمنة»‪ ،‬بوصفها‬
      ‫الشخصية الرئيسية‬
     ‫والرواي العليم‪ ،‬الذي‬
   206   207   208   209   210   211   212   213   214   215   216