Page 212 - m
P. 212

‫تلك الثورة هي مخرج‬                                       ‫العـدد ‪59‬‬                            ‫‪210‬‬
‫«آمنة» من هذا البيت الذي‬
 ‫لا يعرف من العلم سوى‬                                                          ‫نوفمبر ‪٢٠٢3‬‬   ‫منحه الكاتب قدرة الإحاطة‬
                                                                                                   ‫بالأحداث وتفاصيلها‬
  ‫حدوده الضيقة‪ ،‬ويعتبر‬               ‫بها في بيت المأمور‪.‬‬
‫أن مثل هذه الكتب مفسدة‬           ‫هذه الأماكن الثلاثة على‬                                     ‫والشخصيات ما يتعلق بها‪،‬‬
                               ‫تفاوت التفاصيل بها؛ بين‬                                         ‫وما يأتي متزامنًا مع كل‬
  ‫للشباب‪ ،‬وإضاعة للوقت‬         ‫قرية خشنة قاسية خالية‬
               ‫بلا طائل‪.‬‬         ‫من العلم والتعلم‪ ،‬وبين‬                                     ‫منهما‪ ،‬لم تكن بهذا القدر من‬
                              ‫بيت المأمور في المدينة الذي‬                                    ‫الوضوح لولا هذا الاحتكاك‬
          ‫لقد كانت حركة‬         ‫يتوفر على صنوف شتي‬
 ‫الشخصيات التي اختارها‬        ‫من المعارف والفنون‪ ،‬وهذا‬                                           ‫بثقافة الآخر‪ ،‬والخروج‬
                                 ‫البيت الريفي الذي على‬                                        ‫من الحيز الضيق للفكر إلى‬
     ‫طه حسين بين ريف‬             ‫الرغم من ثراء أصحابه‬
    ‫وحضر‪ ،‬تعبر عن تلك‬            ‫ينطوي على طباع ريفية‬                                           ‫رحابة الوعى والاتصال‬
                                                                                               ‫بالعلوم على اختلافها‪ ،‬لذا‬
      ‫الانتقالات في حركة‬           ‫تفتقد الذوق والأناقة‬                                     ‫نرى النص الأدبي في تقديمه‬
 ‫الفكر وليس الشخصيات‬             ‫وتخلو من رحابة الفكر‬
                                 ‫والوعي‪ ،‬تكشف التباين‬                                             ‫لتلك الشخصية‪ ،‬يربط‬
   ‫فحسب‪ ،‬وهو الذي ألح‬                                                                          ‫انتقالاتها من مكان لآخر‬
   ‫على هذه الحركة الدائبة‬           ‫في حركة الفكر التي‬                                          ‫بالرغبة الملحة في التعلم‪،‬‬
‫مع رحيل الأم وبناتها عن‬          ‫تسود ساحتها‪ ،‬وترسم‬                                          ‫وفي إدراك هذا الفارق الذي‬
    ‫القرية وما تركه المكان‬       ‫سلوك الشخصية بقدر‬                                          ‫يحدثه التعليم في حياة الفرد‪،‬‬
    ‫في شخصية كل منهم‪،‬‬           ‫هذا الوعي الذي تمتلكه؛‬                                          ‫وهي التي ترى في عملها‬
  ‫وألح عليها أي ًضا في تلك‬    ‫فهذا صاحب البيت الريفي‬                                             ‫بأحد بيوت الريف ذات‬
‫العودة المهزومة التي منيت‬        ‫الذي يحرص على تعليم‬                                          ‫الثراء الواضح‪ ،‬الخالية من‬
  ‫بها الأم وابنتها الكبرى‪،‬‬       ‫أبنائه يثور ثورة هائلة‬                                     ‫الدقة والرقة وافتتان الذوق‪،‬‬
 ‫واشتدت مع خذلانها من‬            ‫حين يكتشف أن أبناءه‬                                          ‫مو ًتا محق ًقا أو أشبه بذلك؛‬
 ‫ِق َبل أخيها الذي افترضت‬         ‫يقرأون س ًّرا «ألف ليلة‬                                        ‫إذ تقول مستنكرة‪« :‬أي‬
  ‫فيه السند‪ ،‬وأنه «ناص ٌر»‬     ‫وليلة»‪ ،‬فيمزق هذا الكتاب‬                                        ‫حياة يموت فيها العقل أو‬
  ‫لها‪ ،‬فأصبح «غاد ًرا» بها‬     ‫ويشعل فيه النار‪ ،‬وتكون‬                                         ‫يأخذه شيء كالموت! ولكن‬
 ‫وبابنتها التي « ُصرعت في‬                                                                      ‫أي أسف وأي حزن وأي‬
   ‫ذلك الفضاء العريض»‪،‬‬                                                                          ‫لوعة وحسرة‪ ،‬وأي ندم‬
   ‫لتكون الأماكن في حال‬                                                                        ‫يذيب القلب ويملأ النفس‬
   ‫امتلائها سببًا في ضيق‬                                                                      ‫كآبة ويأ ًسا هذا الذي كنت‬
                                                                                             ‫أجده إذا أصبحت وأمسيت‬
    ‫الأفق أو اتساعه‪ ،‬وفي‬                                                                      ‫وقضيت الليل والنهار بين‬
  ‫حال خلوها‪ ،‬محفزة على‬                                                                      ‫عمل باليد أو حديث مع أهل‬
 ‫إزهاق روح بريئة‪ ،‬تذهب‬                                                                       ‫الدار لا متاع فيه للعقل ولا‬
 ‫الصرخة فيها سدى‪ ،‬ولا‬                                                                        ‫لذة فيه للقلب!»(‪ ،)5‬بل أكثر‬
‫تجد من يسمعها أو يجيب‬                                                                       ‫من ذلك يجعلها تفتعل بحثها‬
 ‫النداء‪ ،‬بل إن الأماكن على‬                                                                    ‫الدائم وشغفها للقراءة هو‬
                                                                                              ‫السبب في الرحيل عن هذا‬
    ‫تفرقها‪ ،‬تأخذ من ذات‬                                                                       ‫البيت الذي انتقلت إليه بعد‬
   ‫الشخصية‪ ،‬وتنال منها‬                                                                        ‫حياة مفعمة بالمتعة العقلية‬
   ‫جز ًءا ورا َء الأخر؛ فهذه‬                                                                  ‫والروحية التي كانت تنعم‬

      ‫«آمنة» تصف طريق‬
   207   208   209   210   211   212   213   214   215   216   217