Page 258 - m
P. 258

‫متساوية وسطوح خشنة غير‬                                 ‫العـدد ‪59‬‬                          ‫‪256‬‬
‫مستوية فعلت فيها عوامل الطبيعة‬
                                                                         ‫نوفمبر ‪٢٠٢3‬‬      ‫الأم‪ ،‬إنما لأجري مقاربة بينه‬
   ‫فعلها‪ ،‬حجارة غشيمة لم تألف‬                                                         ‫وبين العمارة التي أبدعها في عهد‬
 ‫الصقل ولا يزكيها غير صلابتها‬      ‫تركن في زاوية معينة‪ ،‬إذ أسهمت‬
                                   ‫في صياغتها عوامل لا حصر لها‬                           ‫لم تكن فيه العمارة الإسلامية‬
   ‫وقيمتها البنائية‪ ،‬خرج بعضها‬                                                           ‫قد نضجت خصائصها وثبتت‬
‫يمينًا أو شما ًل عن خيط الشاقول‪.‬‬                   ‫مجهول أغلبها‪.‬‬                          ‫عناصرها في المنطقة‪ ،‬ولأبرر‬
                                      ‫في عقل وقلب المعماري بدائية‬                        ‫حدسي كون المعماري اشتغل‬
  ‫انفلات لا يزعزع الأساس بقدر‬        ‫أفريقية‪ ،‬مصدرها البيئة ونمط‬                          ‫بحكم تلك الأصول والثقافات‬
     ‫ما يهدد قناعة العين وعادتها‬   ‫العمارة الشائعة في البلاد آنذاك‪،‬‬
                                                                                            ‫وبنظام علاقاتها العضوية‬
  ‫على المقارنة‪ .‬لم تشأ فأس البناء‬       ‫ولدى البربر تحدي ًدا‪ ،‬الذين‬                   ‫بالطبيعة التي تجسدت في النظام‬
                                        ‫اعتمدوا مواد الطبيعة الخام‬
                                      ‫من غير تشذيب‪ ،‬أضلاع غير‬                           ‫المعماري للبناء‪ :‬وهو نظام غير‬
                                                                                      ‫مشذب‪ ،‬غشيم‪ ،‬إذا ما قورن بنمط‬

                                                                                          ‫العمارة الرومانية والبيزنطية‬
                                                                                         ‫بفخامتها وبذخها المفرط التي‬
                                                                                      ‫ملأت الأرض التونسية بعمرانها‪.‬‬
                                                                                           ‫يكشف لنا الجامع الكبير في‬
                                                                                        ‫القيروان عن عمارة ذات منطق‬
                                                                                          ‫مغاير وذائقة تستبطن بدائية‬

                                                                                            ‫ثقافة شعبية‪ ،‬ثقافة غشيمة‬
                                                                                        ‫أهملت ترف العمارة المدنية‪ ،‬أو‬
                                                                                        ‫على الأرجح أنها تجهل وسائل‬

                                                                                          ‫تحقيقها‪ .‬عزز ذلك الواقع أن‬
                                                                                         ‫الحجارة والأعمدة التي جلبت‬
                                                                                          ‫من مختلف المناطق التونسية‬
                                                                                       ‫هي بقايا آثار رومانية وبيزنطية‬
                                                                                        ‫وكنائس هدمت في وقتها‪ ،‬فهي‬
                                                                                       ‫مواد مستعملة ساب ًقا بعضها قد‬
                                                                                       ‫تكسر وتشوه شكله بفعل الهدم‬
                                                                                      ‫والنقل البدائي‪ .‬لقد أدت مجموعة‬
                                                                                        ‫المواد المختلفة وغير المتماثلة إلى‬
                                                                                      ‫نتائج لم تكن في الحسبان‪ ،‬نتائج‬
                                                                                         ‫لا تنتمي لاسم بعينه ولا لمادة‬
                                                                                      ‫محددة ولا لزمن محسوب‪ ،‬حتى‬
                                                                                       ‫أن الجامع ذاته الذي شيده عقبة‬
                                                                                      ‫بن نافع لم يبق منه ذكرى سوى‬
                                                                                          ‫محراب يختفي خلف المحراب‬
                                                                                           ‫الذي بناه بنو الأغلب (يمكن‬
                                                                                        ‫مشاهدة محراب عقبة بن نافع‬
                                                                                          ‫عبر خرومات المحراب القائم‬
                                                                                         ‫حاليًا)‪ .‬إنها نتائج لا يمكن أن‬
   253   254   255   256   257   258   259   260   261   262   263