Page 53 - m
P. 53

‫‪51‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

                            ‫في ذم ِة الأج ِل الطوي ْل‬        ‫الذي يثبته المنطق المستقر‪ ،‬ويقره العقل الكامن في‬
                                    ‫سف ٌر قصي ْر‬              ‫غياهب الماضي‪ ،‬وهذا لا يتجسد إلا بالمجاز‪ ،‬حيث‬
                                                             ‫«نلمس السر في كون الشعر يتجاوز‪ ،‬بفعل المجاز‪،‬‬
       ‫والعال ُم المجنو ُن بع ُد على ضجي ٍج في ضجي ْج‬
               ‫يستكم ُل الصم َت المُصاح ِب للرحي ْل‬              ‫المنطق المألوف‪ ،‬ويضفي على الكلام (والأشياء‬
                                                              ‫أي ًضا) وجو ًدا آخر‪ .‬فالمجاز طبيعة ثانية في اللغة‪،‬‬
          ‫لا عو َد حين يقر ُر الفو ُج المُهاج ُر أن يعو ْد‬   ‫واللغة تنفصل بفعل المجاز عن المنطقية‪ ،‬والوضوح‬
                            ‫لا عود يا ابن الأم ِس‬            ‫العقلاني‪ ،‬ذلك أنها‪ ،‬بفعل المجاز‪ ،‬تتجاوز محدودية‬
                                ‫يا صب َر الضري ْر‬             ‫الألفاظ‪ ،‬وتعبر عما لا يقدر المنطق أو العقلانية أن‬

                        ‫لا عو َد فالنا ُس التهت ت ًّوا‬                 ‫تعبر عنه‪ ،‬وتقول ما يتجاوز العادة»(‪.)2‬‬
                              ‫و ِصر َت كما الأثي ْر‬             ‫لقد جاء هذا كله داخل نصوص الديوان بأعلى‬
                                      ‫لا ظ َّل لا‪..‬‬
                                   ‫لا صو َت لا‪..‬‬                    ‫درجة من الفنية‪ ،‬عن طريق حركة الصورة‬
                                                            ‫والحكايات الشعرية المأزومة التي تتضمنها الكتابة‬
                           ‫لا لا ُو ُجو َد‪ ..‬ولا َعبي ْر‬     ‫الشعرية الجديدة‪ ،‬وكذلك لغة المجاز‪ ،‬التي تتجاوز‬
      ‫فاجمع شتا َت َك واحتفظ للنف ِس بالرم ِق ال َأخي ْر‬
                                                               ‫محدودية الألفاظ‪ ،‬وتقول ما يتجاوز العادة –كما‬
                          ‫واترك رفاق َك يرجعو َن‬                                               ‫ذكرنا آن ًفا‪.-‬‬
                ‫ونم قري َر العي ِن في السف ِر القصي ْر‬
                ‫و ُقل نجو ُت إذا نجا السف ُر القصي ْر‬        ‫حركة الصورة‪ ،‬والحكايات الشعرية‬
                                                                           ‫المأزومة‬
                   ‫سف ٌر يلاحقه سف ْر» ص‪.12 ،11‬‬
     ‫في قصيدتها سالفة الذكر «سف ٌر قصي ٌر» تقف‬              ‫إن ديوان «نصف احتمال للفرح» جاء ليعمق لدى‬
 ‫الشاعرة أمام انتهاكات الماضي حيث الانغماس في‬                ‫الشاعرة الوقوف أمام سؤال نزيف الغياب والألم‪،‬‬
   ‫متاهة السفر والاغتراب‪ ،‬لكنها ليست بحاجة إلى‬               ‫حيث تنتج وفق ذلك خطا ًبا شعر ًّيا يتخذ موق ًعا له‬
    ‫مزيد من الألم‪ ،‬فهي لديها ما يكفيها منه‪ ،‬كذلك‬               ‫على هامش سياقات العودة إلى انتهاكات الماضي‬
    ‫ليست بحاجة –أي ًضا‪ -‬إلى وداع يتم لها من قبل‬               ‫للروح وللذات الشاعرة‪ ،‬والبحث عن سبل ترميم‬
   ‫موعده الأخير‪ ..‬لا مفر لديها من الغياب الحتمي‪،‬‬                 ‫صدوعها‪ ،‬فهي تبلور خطا ًبا ينطلق من منظور‬
   ‫والحيلة تساوي العجز المرير‪ ،‬العجز على مغادرة‬                ‫ضعفها تجاه انتهاكات الحياة المحسوسة بحقها‪،‬‬
   ‫الماضي‪ ،‬والعودة من رحلة الغياب الأزلي في ذمة‬                                     ‫محاولة التغلب عليها بلا‬
     ‫الأجل الطويل الذي يستكمل الصمت المصاحب‬                                        ‫جدوى‪ ،‬حيث لا شيء كان‬
 ‫للرحيل‪ ،‬حيث لا عودة‪ ،‬ولا ظل‪،‬‬                                                   ‫تعده للتغلب‪ .‬تقول في قصيدة‬
 ‫ولا صوت‪ ،‬ولا وجود‪ ،‬ولا عبير‬                                                                 ‫«سف ٌر قصي ٌر»‪:‬‬
  ‫(الشاعرة ذاتها)‪ ،‬وهذا من قبيل‬                                                                ‫«سف ٌر قصير‬
 ‫تذويت الكتابة‪ ،‬وهي تلك الكتابة‬                                                          ‫إذ لا مزي َد من الأل ْم‬
   ‫التي قد تتداخل فيها الحكايات‬                                                    ‫أو لا ودا َع يت ُّم لي من قبل‬
    ‫الذاتية لأصحابها مع المتخيل‬                                                               ‫موعد ِه الأخير‬
‫الإبداعي (شع ًرا وسر ًدا)‪ ،‬وهذا ما‬                                                              ‫سف ٌر قصي ْر‬
 ‫يسمى بـ»تذويت الكتابة»‪ ،‬حيث‬                                                             ‫إذ لا مفر من السف ْر‬
  ‫شيوع هذه السمة في النصوص‬                                                              ‫والحيل ُة العج ُز المري ْر‬
    ‫الشعرية الحداثية‪ ،‬وفق آليات‬                                                      ‫هي لي َس تقد ُر أن ُتغاد َر‬
‫وأدوات الكتابة الشعرية الجديدة‪،‬‬                                                                      ‫هكذا‪..‬‬
   ‫التي تميز هذه النصوص أكثر‬
   ‫من غيرها‪ ،‬وهي ما ُيطلق عليه‬
   48   49   50   51   52   53   54   55   56   57   58