Page 104 - merit 47
P. 104

‫العـدد ‪47‬‬   ‫‪102‬‬

                                                  ‫نوفمبر ‪٢٠٢2‬‬

 ‫غادرت البيت بحجة زيارة أمي‪ ،‬شعرت برغبة في‬                           ‫وحتى عندما جلست في جلسة‬
  ‫شم الهواء‪ ،‬سرت في الشوارع المتكسرة والضوء‬                      ‫الاستجواب مع «جمال» و»ناصر»‬

     ‫ينسحب من السماء شيئًا فشيئًا‪ ،‬هبات باردة‬                        ‫لم تدافع عن نفسها‪ ،‬ولم تتهم‬
 ‫أنعشتني قلي ًل‪ ،‬وسحبت شعوري بالقلق والتوتر‬                    ‫نفسها‪ .‬فقط آثرت الصمت (لم أتمكن‬

                        ‫الذي سيطر على جسمي‬                       ‫من الرد‪ ،‬ولم أعبأ بتأكيد أفكارهما‬
  ‫لا يبعد بيت أمي عن بيتي كثي ًرا‪ ،‬أنت تعرفين أن‬                     ‫المسبقة‪ ،‬استمعت إلى كلامهما‬
 ‫المدينة صغيرة‪ ،‬وكل الشوارع تتصل ببعضها من‬
  ‫ثغرات وسط العمارات والحارات الضيقة‪ ،‬دخلت‬                        ‫بصمت‪ ،‬وشعرت بعدم الرغبة في‬
                                                                  ‫الدفاع عن نفسي‪ .‬أو ربما أدركت‬
      ‫من البوابة المفككة‪ ،‬وصعدت السلالم الرطبة‬
  ‫التي أتخفف برائحتها من همومي الحالية‪ .‬كانت‬                          ‫أن لا شيء أقوله سيصدق)‪.‬‬
   ‫كاميليا تبرر تركها للمنزل لأسابيع بأنها تعود‬                  ‫إنها هنا تؤكد على فلسفة اختيارها‬
  ‫بالزمن سنوات إلى الخلف في بيت أبيها‪ ،‬وتشعر‬                    ‫للصمت النابع من داخلها‪ ،‬فلا رغبة‬
   ‫بأنها أصغر وأخف‪ ،‬تستعيد إحساسها بقوامها‬                       ‫لديها في الدفاع عن نفسها‪ ،‬وتبرر‬
‫النحيف وشعرها المتحرر من الطرحة‪ ،‬وتتمكن من‬                     ‫ذلك بأنها أدركت أنها في كل الأحوال‬
                                                                 ‫سيتم تكذيبها‪ ،‬ولن تكون ُمص َّدقة‬
                            ‫الابتسام» ص‪.137‬‬                      ‫عندهم‪ .‬مما أوصلها في النهاية إلى‬
     ‫في المقطع السابق يتخلص البطل «جمال» من‬                     ‫الاستسلام التام للتلاشي والانعدام‬
     ‫همومه وأوجاعه وآلامه بالخروج لزيارة أمه‪،‬‬
‫حيث رغبته بالحصول على قدر من الهدوء والأمان‬                        ‫(فكرت أنني عالقة في ما ٍض فات‬
 ‫والسكينة‪ ،‬فخرج إلى الشارع ليشتم هوا ًء منع ًشا‪،‬‬                       ‫وانتهى الأمر‪ ،‬ولم أرد حتى‬
     ‫تسبب في سحب شعوره بالقلق والتوتر الذي‬                                    ‫التخلص من آثاره)‪.‬‬

                                                    ‫إن هذا التنقل داخل الرواية بين مواقع الحكايات‬
                                                    ‫السردية وحيثيات الذات الساردة يئول في نهاية‬
                                                    ‫المطاف إلى كاتبة ذات قوة كلية أشبه بفنان بائس‬
                                                  ‫مأزوم‪ ،‬فيتخذ النص الروائي منحى آخر‪ ،‬إذ يشرع‬
                                                    ‫في إعادة تكوين العالم والبشر والطبيعة وكأن ما‬
                                                   ‫سبق من حكايات ومشاهد سردية قد أقنع الكاتبة‬
                                                     ‫بأن التغلب على بؤس الحياة يقتضي إعادة خلق‬
                                                    ‫كل شيء من جديد‪ ،‬وتشكيل كافة مفردات العالم‬
                                                  ‫والحياة؛ اعتما ًدا على رغبة ذلك الفنان المأزوم الذي‬
                                                      ‫هو وحده يعرف كيف يصلح شئون هذا العالم‬
                                                      ‫المأزوم‪ ،‬ومن خلال المقطع الآتي‪ ،‬تقتنع الكاتبة‬
                                                     ‫بأن أفضل طريقة للاستمرار في هذه الدنيا‪ ،‬هي‬
                                                    ‫أن تعود إلى ما يكون جوهر فرديتها وحضورها‬

                                                            ‫وقوتها‪ .‬تقول على لسان الذات الساردة‪:‬‬
                                                  ‫«إنني متعب ج ًدا وأحتاج إلى النوم‪ .‬تظاهرت بالنوم‬
                                                  ‫لما بعد العصر‪ ،‬كنت أشعر بحركة صفاء من حولي‪،‬‬

                                                    ‫أشعر بها تتأمل جسدي الثابت‪ ،‬ترتاب في حقيقة‬
                                                  ‫كوني نائ ًما‪ ،‬لكنها قررت تركي وشأني‪ .‬كان العرق‬
                                                  ‫يغمرني رغم البرد‪ ،‬وعندما لم أعد قاد ًرا على تحمل‬

                                                           ‫البطانية الثقيلة‪ ،‬نهضت لتغيير ملابسي‪.‬‬
   99   100   101   102   103   104   105   106   107   108   109