Page 211 - merit 47
P. 211

‫الملف الثقـافي ‪2 0 9‬‬

    ‫الثورة ودلي ًل على التمرد‬                               ‫موقف المعري يتعرض‬           ‫الآن يا أسرار عري الذي‬
     ‫والغضب ورفض القهر‬                                   ‫للتناقض أحيا ًنا‪ ،‬فهو تارة‬       ‫يخفى تعاطي كالصباح‬
                                                                                                       ‫الوضوح‬
                    ‫والظلم‪:‬‬                                ‫مع الصمت‪ ،‬يلوم نفسه‬
  ‫أوتلعازأفنس َتي ُّلسيسيو ًفاٌف ِم ًمننأغاحنديي ٍد؟‬       ‫على الإفصاح‪ ،‬ويؤيد ما‬        ‫من أجج الحرب بلا غاية؟‬
   ‫وهذا الشعر آخر ما تب َّقى‬                             ‫كان يشعر به من تفضيل‬           ‫من علم الأسباب ألا تلوح‬
‫ِمن الأحباب في زمن التشاني‬
                                                                         ‫للصمت‪:‬‬           ‫من جهة أخرى يختلف‬
      ‫وإذا كان الإفصاح عند‬                                ‫لو قبل النصح لساني ما‬       ‫موقف البردوني من مسألة‬
  ‫المعري لا يعني بالضرورة‬                                                             ‫الافصاح عن موقف المعري‪،‬‬
  ‫الوضوح والشفافية‪ ،‬إذ هو‬                                                   ‫نبس‬
 ‫في الغالب مخاتلة للواقع‪ ،‬أو‬                             ‫ومرة يبرر الإفصاح بقوة‬         ‫المعري يفصح عن حقيقة‬
   ‫بالأحرى مخاتلة للمتلقي‪،‬‬                                ‫موجباته‪ ،‬وكثرة دواعيه‪،‬‬           ‫ما في نفسه هم ًسا‪ ،‬أما‬
 ‫وخشية مما يمكن عن يحيق‬
  ‫به جراءه‪ ،‬وهو يؤكد مرا ًرا‬                                 ‫وضرورته وحتميته‪:‬‬          ‫جهرة فكلامه مداجاة ولف‬
   ‫انبناء كلامه على الغموض‬                                ‫فما لي لا أقول ولي لسان‬                      ‫ودوران‪:‬‬
                                                        ‫وقد نطق الزمان بلا لسان‬
      ‫والإبهام‪ ،‬لا سيما وأنه‬                               ‫أما موقف البردوني من‬      ‫إذا قلت المحال رفعت صوتي‬
  ‫يتكون من عبارات مجازية؛‬                             ‫الصمت والافصاح فهو ثابت‬        ‫وإن قلت اليقين أطلت همسي‬
                                                      ‫لا يتغير‪ ،‬الصمت موت في كل‬       ‫أما البردوني فيأنف من هذا‬
      ‫لا يجوز فهمها بالمعنى‬                            ‫الأحوال‪ ،‬والافصاح مقاومة‪،‬‬     ‫التلفت‪ ،‬يرفض التلوين‪ ،‬الأمر‬
                    ‫الحرفي‪:‬‬                             ‫إرادة حياة‪ ،‬ثورة في وجوه‬      ‫بالنسبة له‪ ،‬أما صمت مخز‪،‬‬
                                                        ‫الطغاة‪ ،‬إعلان عن وجود لا‬
  ‫نقول على المجاز وقد علمنا‬                            ‫ينهزم‪ ،‬ثم هو خيار لا خيار‬         ‫أو جهر يرضي الضمير‪،‬‬
    ‫بأن الأمر ليس كما نقول‬                                                            ‫ويساند الوجهة الصحيحة‪:‬‬
 ‫فإن الإفصاح عند البردوني‬                                                  ‫سواه‪:‬‬
‫َت َف ُّج ٌر بركاني في وجه الواقع‪،‬‬                        ‫أصيح الآن‪ :‬هل في القلب‬        ‫الآن يا أسرار عري الذي‬
  ‫وهو تثوير متعمد للمتلقي؛‬                                                                ‫يخفى تعاطي كالصباح‬
 ‫بل هو ثأر من الصمت الذي‬                                                   ‫صو ٌت‬                       ‫الوضوح‬
    ‫يعتبره مو ًتا يتكرر طوال‬                               ‫بحجم الحقد‪ ،‬أقوى ِمن‬
     ‫الوقت‪ ،‬ثم هو يؤكد على‬                                                           ‫إذن فكرة الصمت والإفصاح‬
  ‫رغبة حقيقية في الموت قت ًل‬                                              ‫َجناني؟‬      ‫عند المعري تتعلق بالتفكير‬
    ‫جراء إفصاحه وصراخه‪،‬‬                                 ‫أصيح‪ :‬لكي أُد ِّمر أي سج ٍن‬     ‫في تأويلات المتلقي‪ ،‬وهي‬
‫فذلك أجدى من الموت صمتًا‪،‬‬                              ‫لينفث جذو ًة بع ُض اختزاني‬     ‫تعكس ما عاناه من تلصص‬
  ‫ورضو ًخا للقهر‪ ،‬فإذا نجح‬                            ‫أعندي غير هذا الحرف ينوي‬            ‫على فلسفته ومعتقداته‪،‬‬
                                                        ‫كما أنوي‪ ،‬يعاني ما أُعاني؟‬     ‫فالمعضلة بالنسبة له تتعلق‬
     ‫صوته أن يكون معركة‬                               ‫أكان الصمت أجدى يا قوافي؟‬         ‫بالبحث عن قارئ يحسن‬
     ‫تغيير‪ ،‬وامتحا ًنا حقيقيًّا‬                        ‫أأرضى حكم أولاد الزواني؟‬       ‫التلقي والتأويل‪ ،‬بينما فكرة‬
   ‫للشجاعة والإرادة الحرة‪،‬‬                             ‫وبقدر ما كان ِحجاج المعري‬          ‫الصمت والإفصاح عند‬
‫فإن موته جراء ذلك لن يكون‬                              ‫يقوم على اعتبار الصمت من‬          ‫البردوني تتعلق بالتزامه‬
‫مو ًتا؛ بل سيكون ولادة أجمل‬                             ‫علامات الحجا‪ ،‬ودلي ًل على‬       ‫بقضايا الشعب‪ ،‬بسرديته‬
                                                        ‫العقلانية والتأني؛ كونه في‬      ‫المضادة لسردية السلطة‪،‬‬
              ‫وأكثر ثورية‪:‬‬                            ‫المحصلة النهائية أكثر جدوى‬          ‫بالخطاب النقيض الذي‬
        ‫لأني م ُّت آ ًنا بعد آ ٍن‬
     ‫أ َو ُّد اليوم قت ًل غير آني‬                         ‫من الإفصاح‪ ،‬فإن حجاج‬       ‫يستطيع كسر هيمنة التسلط‬
                                                          ‫البردوني يقوم دائ ًما على‬   ‫وفضح أخطائه‪ .‬ويفضح في‬
                                                       ‫اعتبار الإفصاح من علامات‬       ‫نفس الوقت وجوه المتوارين‬

                                                                                       ‫والمتخلين عن مسؤلياتهم‪.‬‬
   206   207   208   209   210   211   212   213   214   215   216