Page 99 - merit 45
P. 99

‫‪97‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫قصــة‬

     ‫صمت‪ .‬الشقة كلها تشم فيها رائحة عطر قوي‬               ‫الخمسين جنيها‪ ،‬ربت على كتفي ثم وضعها في‬
    ‫مريح للأعصاب‪ .‬السقف تزينه ديكورات أنيقة‪،‬‬                                            ‫جيب قميصي‪.‬‬
  ‫والجدران تحمل عد ًدا من اللوحات الزيتية تصور‬
   ‫وجوه أطفال في هيئات مرحة‪ .‬بعد خمس دقائق‪،‬‬                            ‫‪-4-‬‬

       ‫خرج ْت من الممر سيدة طويلة القامة‪ ،‬ترتدي‬          ‫وصلت العنوان في الموعد المحدد‪ .‬لم يتوقف عقلي‬
  ‫بنطلو ًنا فضفا ًضا ينتهي قبل كاحلها بسنتيمترات‬         ‫لحظة عن التفكير طوال الرحلة وحتى نزولي من‬
                                                          ‫القطار في محطة سيدي جابر‪ .‬حاولت أن أتوقع‬
     ‫قليلة‪ ،‬فوقه بلوزة طويلة تصل لفخذيها‪ ،‬بينما‬           ‫سن أولاد القائد‪ ،‬والمناهج التي سأدرسها لهم‪.‬‬
    ‫تغطي شعرها بطرحة ملونة معقودة من الخلف‬               ‫ماذا يمكن أن يحدث لو حصل أحدهم على درجة‬
 ‫تبرز عنقها النحيل‪ .‬سرح ُت للحظات أتأمل ووجها‬          ‫ضعيفة؟ صعدت السلم وأنا أسمع صوت أنفاسي‪.‬‬
  ‫الأبيض الذي يشع نو ًرا‪ ،‬لم أشاهد في حياتي مثل‬
 ‫صفاء بشرتها؛ فنساء قريتنا صبغت شمس الحقل‬                   ‫هل سيفتح لي القائد الباب بنفسه؟ أرفع يدي‬
                                                        ‫بالتحية العسكرية عند رؤيته‪ ،‬أم أنه سيعتبر ذلك‬
      ‫وجوههن بسمرة أزلية‪ ،‬وصنعت فيها حرارة‬               ‫سلو ًكا غير لائق؟ الدور الثالث‪ ،‬شقة ‪ ،9‬ضربت‬
    ‫الأفران ولسعات البعوض بق ًعا وبثو ًرا توارثنها‬       ‫الجرس‪ ،‬انتظرت دقيقة‪ ،‬سمعت حركة قريبة من‬
                                                        ‫الباب‪ ،‬عدلت من قميصي بسرعة داخل البنطلون‪،‬‬
                                 ‫جي ًل بعد جيل‪.‬‬        ‫ُفتِ َح الباب‪ ،‬رسمت ابتسامة على وجهي‪ ،‬سرعان ما‬
                                 ‫‪ -‬أنت إبراهيم؟‬
   ‫كانت تضغط على الهمزة وهي تنطق اسمي‪ ،‬على‬                    ‫تحولت لصيحة خافتة ممزوجة بالدهشة‪..‬‬
 ‫خلاف ما اعتدت عليه‪ ،‬فأغلب من أعرفهم ينادوني‬           ‫‪ -‬صبحي؟ صبحي سعيد؟ غير معقول! ماذا تفعل‬
‫« ِب َراهيم» بدون همزة‪ ،‬لكن يبدو أن أهل الإسكندرية‬
                     ‫لهم طريقة خاصة في الكلام‪.‬‬                                       ‫هنا يا بن العمدة؟‬
                      ‫‪ -‬نعم يا فندم‪ ،‬أنا إبراهيم‪.‬‬
                         ‫‪ -‬وهل د َّرست من قبل؟‬                         ‫‪-5-‬‬
  ‫‪ -‬من أول يوم لي في الكلية وأنا أمارس التدريس‪.‬‬
  ‫‪ -‬الولدان يحتاجان لاهتمام كبير‪ ،‬وأي تدهور في‬              ‫عام كامل فصل بيني وبين صبحي سعيد في‬
   ‫مستواهما أنت المسؤول‪ .‬اليوم ستتعرف عليهما‪.‬‬              ‫الالتحاق بالتجنيد‪ ،‬ولأنه لم يحصل على مؤهل‬
    ‫ستبدأ الدروس من باكر‪ ،‬يوم الأحد ستدرسهم‬               ‫سوى الشهادة الإعدادية‪ ،‬فستمتد خدمته لثلاث‬
     ‫اللغة الإنجليزية‪ ،‬الاثنين للغة العربية‪ ،‬الثلاثاء‬
        ‫للرياضيات والأربعاء للعلوم‪ ،‬يوم الخميس‬               ‫سنوات‪ .‬سمعنا أن أباه‪ ،‬عمدة القرية‪ ،‬سعى‬
      ‫للمراجعة‪ .‬راحتك يومي الجمعة والسبت‪ ،‬عدا‬          ‫للحصول له على واسطة كبيرة تجنبه قسوة الحياة‬
‫أوقات الاختبارات‪ .‬أعطني الآن رقم هاتفك المحمول‪،‬‬
          ‫كي أتصل بك في حال حدوث أي طارئ‪.‬‬                  ‫العسكرية‪ .‬لكن ماذا يفعل هنا؟ تمالكت نفسي‬
      ‫أوضح ُت لها أني لا أملك هذا الهاتف المحمول‬        ‫بسرعة‪ ،‬سلمت على ابن قريتي الذي بدا مضطر ًبا‬
     ‫الذي تسأل عن رقمه‪ ،‬فنبهتني لضرورة تدبير‬
   ‫جهاز بشكل عاجل‪ .‬صحبتني بعد ذلك إلى غرفة‬                ‫للغاية‪ ،‬وكست وجهه زرقة شاحبة‪ .‬أخبرته أني‬
  ‫الولدين‪ ،‬عرفتني بهما؛ سراج وأدهم‪ ،‬في الصفين‬            ‫جئت على موعد لتدريس أبناء حضرة القائد‪ .‬هز‬
 ‫الرابع والسادس على الترتيب‪ .‬جلس ُت خلف طاولة‬            ‫رأسه متفه ًما‪ ،‬وخرجت كلمات الترحيب من فمه‬
 ‫مستديرة وتبادل ُت معهما الحديث حول دراستهما‪.‬‬
   ‫تجاوز ُت التعليقات السخيفة من الصبي الصغير‬                                                  ‫ثقيلة‪..‬‬
  ‫على لهجتي القروية‪ .‬سجل ُت بعض الملاحظات عن‬                               ‫‪ -‬تفضل يا ِب َراهيم‪ ،‬اتبعني‪..‬‬
‫المناهج التي لزم أن أراجعها جي ًدا قبل شرحها لهما‪.‬‬      ‫خلعت حذائي عند عتبة الباب‪ .‬أدخلني صبحي إلى‬
                                                         ‫بهو فسيح‪ ،‬به مقاعد وثيرة للاستقبال‪ .‬في نهاية‬
                                                           ‫البهو ممر طويل لم أتبين تفاصيله‪ ،‬اختفى فيه‬
                                                         ‫ابن العمدة قبل أن أوجه له أي سؤال‪ .‬جلس ُت في‬
   94   95   96   97   98   99   100   101   102   103   104