Page 107 - merit 41- may 2022
P. 107

‫‪105‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

     ‫القصــة في سوريا‬

    ‫لم يكن بحيلة مجد إلا أن يصفعها ويثبِّتها بقوة‬           ‫احت َّل الأطفال الثَّلاثة مقع ًدا واح ًدا قرب النَّافذة‬
  ‫ويصرخ بها‪ :‬اخرسي‪ ،‬ستعطي ِك أ ِّمي في البيت ما‬             ‫المفتوحة‪ ،‬أكبرهم لا يزيد عمره على اثني عشر عا ًما‪،‬‬
                                                            ‫أما سندس التي عرف ُت اسمها لكثرة ما و َّبخها مجد‪،‬‬
                                       ‫تريدين‪..‬‬             ‫فقد كانت تنت َّقل بين حضني أخويها باستمرار‪،‬‬

     ‫حمد ُت الله أن لهم أ ًّما وستعطيهم ما يريدون‪.‬‬          ‫تارة تتظاهر بالنَّوم‪ ،‬وتارة تح ِّرر يديها لتطيرا في‬
   ‫أكملت سندس غاضبة ومختالة‪ :‬بع ُت اليوم أكثر‬               ‫الهواء المنعش‪ ،‬فيأمرها ال َّسائق بإدخالهما‪ ،‬ويجبرها‬
                                                            ‫مجد على الهدوء‪ ،‬فتبكي أو تفتعل البكاء‪ ،‬ويدير‬
                                        ‫منكما‪..‬‬             ‫ال َّرجل الذي يحت ُّل المقعد الأمام َّي رأسه إليهم‪ ،‬يقول‬
                                                            ‫بلطف‪ :‬اجلسي واسكتي‪ .‬فتسكت ال َّصغيرة ال َّسمراء‬
‫الآن عرف ُت الق َّصة كاملة‪ .‬تب َّدلت مشاعري المتناقضة‬       ‫المحترقة‪ .‬تنتبه بعد ثوان إلى سيارة مسرعة‪ ،‬تشير‬
      ‫إلى حزن كبير بعد أن كانت مزي ًجا من غضب‬               ‫بيدها إليها وتقلِّد صوت مح ِّركها‪ ،‬تلتفت امرأة‬
                                                            ‫مسنَّة إلى الوراء‪ ،‬تؤ ِّنب الأطفال بصوتها المرتجف‪:‬‬
   ‫وانزعاج ووو تق ُّزز‪ .‬نعم كنت أشعر بالتق ُّزز من‬          ‫اهدؤوا قلي ًل‪ ..‬تهدأ سندس‪ ،‬يض ُّمها ماجد النَّائم‬
  ‫ملابسهم المتَّسخة وأظافرهم ال َّطويلة التي ع َّشش‬                 ‫طوال الطريق‪ ،‬وتلهو بشعرها الغجر َّي‪.‬‬
                                                            ‫‪ -‬يعجبني َشعر ِك يا سندس‪ ..‬تغ َّزل ُت بها‪ ،‬أدر ُت‬
      ‫بداخلها تعب أيام طويلة سوداء في الشوارع‪.‬‬              ‫وجهي عنها للحظات‪ ،‬فوقفت في مواجهتي تتغنَّج‪،‬‬
      ‫‪ -‬نامي قلي ًل ونصل‪ ..‬أدنى ماجد رأسها من‬
                                                            ‫ولم تبتعد إلا حين قرص ُت خ َّدها بنعومة‪.‬‬
                                        ‫صدره‪.‬‬               ‫ألقى ماجد برأسه على كتف مجد‪ ،‬لحظات قليلة‬
                                                            ‫وح َّط رأس مجد على رأس أخيه‪ ،‬ناما بعمق وكأ َّنهما‬
 ‫‪ -‬أنا جائعة‪ ..‬اشتكت‪ ،‬استكانت وأغمضت عينيها‪.‬‬                ‫في فراش وثير‪ ،‬استكانت سندس ولم تنم‪ ،‬تسلَّت‬
                                                            ‫بالنَّظر إل َّي‪ ،‬تف َّحصتني من رأسي حتى حذائي‪،‬‬
     ‫بحث ُت في حقيبتي عن شيء أق ِّدمه لها‪ ،‬شعر ُت‬           ‫تبتسم لي حينًا وتك ِّشر حينًا وكأ َّن شيئًا ما لا‬
  ‫بفرح كبير حين عثر ُت على قطعة بسكويت‪ ،‬لكنَّها‬             ‫يعجبها‪ ،‬ربما سترتي أو تسريحة شعري‪ .‬مع ِك ح ٌّق‬
                                                            ‫أيتها ال ِّطفلة المشاكسة‪ ،‬فهناك شيء ما لا يعجبنا في‬
                                       ‫رفضتها‪.‬‬
                                                                             ‫هذا العالم الفوضو ِّي وال َّصامت‪.‬‬
                 ‫لم أكن أعرف أنها لا تملك سواه!‬             ‫أنهت سندس جولتها البصر َّية عليَّ‪ ،‬رفعت يدها إلى‬
    ‫ال َّطريق ال َّطويل من منتصف المدينة حتى البلدة‬         ‫شعر أخيها تعبث به‪ ،‬ه َّزت كتف مجد‪ :‬أريد مائة‬
 ‫التي أسكن فيها كان مسلِّيًا هذا المساء‪ ،‬إذ لم تن َس‬                                                  ‫ليرة‪.‬‬

              ‫سندس أن تغنِّي قلي ًل قبل أن تغفو‪.‬‬            ‫ثفاترحتالعاصبصُّيفةعيمنينه‪،‬ك ِّلطمخرلارأياهساهاأيفقيظتح الضغانفيمانجفدي‪،‬‬

   ‫حين وصلنا إلى مدخل البلدة أفاق مجد من نومه‬                 ‫الحافلة‪ ،‬صارت تضرب أخويها وتزعق‪ .‬وال َّرجل‬
                                                            ‫الذي إلى يميني زمجر‪« :‬أغلقي فم ِك‪ ،‬العمى»‪ ..‬لكنَّها‬
   ‫وه َّز أخويه‪ ،‬فتحت سندس عينيها وابتسمت‪ ،‬ثم‬
                           ‫وقفت وقبَّل ُت خ َّديهما‪.‬‬         ‫تح َّولت إلى م ٍّد يصعب إيقافه‪ ،‬حتى أ َّنها أخرجت‬
                                                            ‫قدميها من النَّافذة وكأ َّن لحظة ال َّطيران قد حانت‪.‬‬
    ‫قبل أن ينزلوا من الحافلة أخرج ْت سندس علبة‬              ‫معظم ال ُّركاب تأ َّف ُفوا وشتموا الحياة والعمل‬
            ‫بسكويت وسألتني‪ :‬هل تشتري منّي؟‬                  ‫والحافلات والأطفال والفقر‪ .‬امرأة في ال َّصف‬
                                                            ‫ظلَّت تحضن طفلها النَّظيف بر َّقة‪ ،‬بينما‬  ‫األنأامأاكملِّ ِّمي‬
                  ‫ناول ُتها المال‪ ،‬ول َّوح ْت لي مو ِّدعة‪.‬‬  ‫سندس بشيء من الحنان‪ :‬يا حلوة عيب‬
     ‫في الليل حين انزلق ُت إلى فراشي لمح ُت الأطفال‬
    ‫الثَّلاثة ينامون متلاصقين‪ ،‬وسندس الغارقة في‬                                                       ‫اهدئي‪.‬‬
 ‫أعمق نوم تتن َّقل بين أ ِّمها وبين أخويها‪ ،‬قد تضرب‬

                        ‫هذا وقد تسبح فوق ذاك‪.‬‬
    ‫صبا ًحا وحين الت ُّفوا حول مائدة الفطور تبادلوا‬

                         ‫ق َّص ما رأوه في نومهم‪.‬‬
           ‫أحلامهم كما أثوابهم الرماد ّية تشابهت‪.‬‬
   ‫سندس التي كانت تح ُّب البسكويت قامت باتجاه‬

                             ‫ال َّصناديق وركلتها‪.‬‬
   102   103   104   105   106   107   108   109   110   111   112