Page 109 - merit 41- may 2022
P. 109
107 إبداع ومبدعون
القصــة في سوريا
مجس ًدا ،أطلق صيحة فزع ،وهم بإغلاق الباب ،لكنه غضبًا عليك.
عاجله بدفع ٍة عنيفة: -حرا ٌم عليك ،إنه أبي.
كيف عرفت أنني لست ابن أبي؟ -ر َّبما!
من أنت؟ أنا لا أعرفك! -ماذا تعني بـ(ربما)
-أعني :ربما لست من أهله ،ربما كنت عم ًل غير
بل تعرفني ،سمعتك اليوم في المقبرة تقسم بأني
لست ابن أبي. صالح.
فتح فمه ليحت َّج ،ألقمته فتاته ثديها ،مصه بنهم ،ثم
كانت الثعابين تطل من رأس الفتى وعينية ،فأيقن
العجوز باستحالة المقاومة ،استعاد رباطة جأشه، استسلم لخد ٍر لذي ٍذ بعي ًدا عن ذكرى المقبرة .ربما
ثم قال بنبر ٍة واثق ٍة :نعم ،أنت لست من ولد الشيخ، دفء الحليب يخفف شيئًا من صقيع الذاكرة.
تصرفاتك في المقبرة قالت ذلك ،نظر ُت في وجهك في صباح يوم وفاة الشيخ كان الأهل منهمكين
فلم أر نور المرحوم في عينيك ،أنا أعرف المرحوم،
وأعرف أبناءه من عيونهم ،عيناك مختلفتان لا يبرق في تجهيز الجثة ،بحثوا عنه ،قالوا :يجب أن يصب
الطاسة الأولى على جسد المرحوم ،إنه بكره .حين
فيهما خيال ،ليغفر الله لي إن كنت قد ظلمتك. يئسوا من العثور عليه انهالت طاسات الماء الحار
نظر مليًا في وجه العجوز ،ثم راح يقهقه بشك ٍل على الجسد العاري ،فأحالت شحوبه إلى لون الورد.
مخي ٍف .رددت المقبرة أصداء ضحكاته المجنونة، قال المغسل :سبحان الله! لم أر جس ًدا حيًّا لميت كهذا
وهو يتوغل فيها .لم يبذل جه ًدا كبي ًرا في التعرف قط .علق شيخ طريقته :طوبى له ضي ًفا عزي ًزا على
مولاه ،ع َّجلوا غسله وتكفينه ،إنهم في الملأ الأعلى
إلى القبر ،كان ترابه لا يزال نديا وقد تناثرت
فوقه زهور ذكية الرائحة ،عندما ركع على ركبتيه ينتظرونه ليرفعوه إلى مقامه.
عند القبر ،بسط ذراعيه على التراب ،وجعل يشمه اصطفت أسرة الشيخ أمام القبر تتلقى التعازي،
بقو ٍة كأنما يريد له أن ينفذ في مسام جسده ،ثم كانت الشمس حارة حد اللهيب ،وقد بلغت القلوب
صرخ فجأ ًة « :أستحلفك بالله أيها الجليل ،ألست الحناجر ،فاحت روائح كريهة من الأجساد زكمت
الأنوف ،ترنح بعضهم ،واحتمى آخرون من الحر
ولدك؟! لم يسمع إلا حفيف الشجر المنتصب بظلال القبور .مر المعزون يصافحونه واح ًدا واح ًدا،
كأشباح سوداء ،بكى بكا ًء كانت تتوق إليه نفسه، يداه مبتلتان ،والعرق يغسله من مفرق رأسه حتى
وظل ينادي ،ويبكي حتى أيقظ سكان القبور ،قال أخمص قدميه .بحث عن فتاته في وجوههم رآها
بعضهم »:تبًا لهؤلاء الأحياء يأبون إلا أن يفسدوا تنزف من عيونهم وقد استحالت وهم يبكون إلى
علينا نومنا الهانئ» ،وقال آخر »:دعوه يبكي ،إنها دم ٍع سخين .شعر بالخزي ،ثم تبسم ببلاهة في
وجه أحد المعزين حين قال له« :عظم الله أجركم»،
مسأل ٌة عائلي ٌة» قال حكي ٌم منهم »:لو ذاق حلاوة
الخيال ،لعرف أباه» همس أخوه الأصغر في أذنه :قل« :شكر الله
سعيكم» ،ضحك لهذه اللفتة المسرحية ،ثم كرر
أقبل العجوز يحمل فأ ًسا كبير ًة ،كان لديه إحساس البسمة البلهاء نكاي ًة بأخيه .وكزه أخوه في خصره؛
قوي بأنه سيرى الفتى عند قبر الشيخ .شرع يحفر فندت عنه صرخ ٌة أثارت فضول الناس .قال أحدهم:
جوار القبر حفر ًة عذراء لا تشبه الحفر ،وبين الحين «مسكين ،لم يحتمل الصدمة» ،قال آخر« :م َّسه
والآخر يختلس النظر إليه فيطمئن أنه خائر القوى، طائف من الجن» ،قال حارس المقبرة العجوز وهو
منطفئ النفس .حين انتهى من عمله اقترب منه ،لمس
رقبته بي ٍد حاني ٍة ،استجاب الفتى للمسته بخضوع، يبصق« :أقسم بالله إنه ليس ابن أبيه».
ثم تبعه إلى الحفرة دون تردد ،ساعده العجوز على مع بزوغ صباح اليوم التالي توجه إلى المقبرة،
كانت الشمس تمدد رجليها عند قبر المرحوم ،فاجأ
الاستلقاء فيها ،ثم راح يهيل فوق جسده التراب، الحارس بدقات عنيف ٍة على باب بيته ،فتح العجوز
قبل أن يغمر وجهه ،ويحجب عنه النور إلى الأبد الباب بعد تلبث قلق ،خيل إليه أنه أمام إبليس
قبله بين عينيه وقال »:ما عدت الآن بحاجة لمعرفة
أبيك ،ما عدت اليوم بحاج ٍة إلى معرفة أبيك»