Page 108 - merit 41- may 2022
P. 108

‫العـدد ‪41‬‬                            ‫‪106‬‬

                                                                  ‫مايو ‪٢٠٢2‬‬

‫عدنان كزارة‬

‫(سوريا)‬

‫الباحث عن أبيه‬

 ‫الجنازة في الحارة القديمة من أقصاها إلى أقصاها‪،‬‬            ‫أح َّس لسعات البرد في الصباح الباكر‪ ،‬أيقظ البرد‬
  ‫تلبثت قلي ًل عند البيت الكبير‪ ،‬قال العارفون‪ :‬إنهم‬        ‫ذكرى والده الشيخ في وقت هجعت أحداث الأمس‬
 ‫سمعوا لها أنينًا كحنين الإبل‪ ،‬ورأوا أشبا ًحا لموتى‬
                                                             ‫في أعماق لا وعيه مجرة من الخيال‪ .‬من الغريب‬
    ‫من العائلة يسلِّمون على الجنازة تسليم الوداع‪.‬‬          ‫ألا يذكر الشيخ إلا في الجو البارد كأحشاء القبور‬
  ‫بكى الفقيد خل ٌق كثي ٌر‪ ،‬كان لك ٍّل أسبابه في البكاء‪،‬‬
  ‫أما هو فلم تعرف الأسباب التي جعلت دموعه في‬                  ‫يتلمس الدفء في كلماته‪ ،‬يحفظها عن ظهر قلب‬
 ‫المقبرة كدموع التماسيح‪ .‬شرد ذهنه إلى فتاته‪ ،‬و َّد‬          ‫كتميمة‪ .‬كان يرتل القرآن بصو ٍت يسربله الأسى‬
                                                             ‫وتقطعه شهقات بكاء‪ ،‬لم يطل سحر الصوت إلا‬
    ‫أن تكون بجانبه في هذا المحشر الرهيب‪« :‬ليتها‬              ‫ريثما تجلى الشيخ في ساحة الرؤيا بكامل قامته‬
 ‫هنا‪ ،‬إنها تعشق الأحزان‪ ،‬وتبكي كما لا تبكي قبيلة‬             ‫الكبيرة يمشى الهوينى في جنة عرضها كعرض‬
‫بأسرها»‪ .‬قالت لي يو ًما‪« :‬الدمع يرمم نفسي؛ فأرى‬             ‫السماء والأرض‪ ،‬كان يرتدي ثو ًبا أبيض وتحيط‬
  ‫جحيم دنياي كأنها نعيم آخرتي»‪ .‬سأحدثها الليلة‬               ‫براسه عمامة خضراء‪ .‬دمعت عينا الفتى بصدق‬
                                                             ‫لأول مرة وهو ما لم يفعله ظهر هذا اليوم حين‬
   ‫عن طقوس الدفن‪ ،‬عن دمعي الخائن عن أقاربي‬                  ‫وارى الشيخ في القبر‪ ،‬وأهال على جثمانه التراب‪،‬‬
   ‫الفضوليين‪ ،‬عن الخوف من الموت الذي رأيته في‬
    ‫وجوه المعزين‪ ،‬ربما لن أروي غليلها لكنني على‬                ‫كانت دموعه التي سفحها ريا ًء لإرضاء غرور‬
                                                          ‫الفضوليين من أقاربه الذين راهنوا على جزعه يوم‬
                            ‫الأقل سأريح نفسي‪.‬‬
   ‫أحس بطاق ٍة كبير ٍة وهو يتلقى جثمان الشيخ إلى‬            ‫وفاة والده‪ ،‬وتوقعوا أن تقصم المأساة ظهره‪ ،‬أو‬
    ‫القبر‪ ،‬كان من المفروض أن يحاذر حتى يوسده‬                                                ‫تفقده توازنه‪.‬‬
 ‫التراب برفق‪ ،‬انزلقت الجثة بغت ًة من يديه‪ ،‬وأحدث‬
  ‫ارتطامها بقاع القبر صو ًتا يشبه قرع ناقوس‪ ،‬لم‬             ‫كانوا على علم بما أنفق الشيخ حتى س َّواه رج ًل‪،‬‬
  ‫ينتبه أحد ممن تحلَّق حول حفر ٍة القبر‪ ،‬فمثل هذا‬        ‫رهن من أجل تعليمه البيت الكبير في الحارة القديمة‪،‬‬
   ‫الصوت غريب في مقبرة‪ ،‬ولكن الترتيل الجماعي‬
‫لسورة ياسين أصم آذانهم‪ ،‬فلم يلقوا الأسماع وهم‬                 ‫ثم باعه لما استغلق الرهن‪ .‬قيل إن البيت ميراث‬
   ‫شهود‪ .‬ظهرت بقع ٌة حمراء في الكفن الأبيض من‬                ‫الشيخ من آبائه وأجداده ومرقد عظامهم‪ ،‬وقيل‬
   ‫جهة الرأس‪ ،‬تفشت كنقطة حبر في ورق نشاف‪،‬‬                  ‫إنه مذ باعه نجمت في صدره قرحة ما زالت تطلبه‬
   ‫انتابه فزع شديد‪ ،‬وكاد يسقط من طوله لولا ي ٌد‬
                                                                                       ‫بثأرهم حتى قتلته‪.‬‬
                          ‫مجهولة انتشلته بقوة‪:‬‬               ‫قال لفتاته ليلة دفن والده‪ :‬خانني معي اليوم في‬
                      ‫‪ -‬هل جننت؟ لم فعلت هذا؟‬            ‫المقبرة‪ ،‬خذلني في أحوج الأوقات إليه؛ فأعينيني على‬
         ‫‪ -‬أفلتت الجثة من يدي‪ ،‬هوت رغ ًما عني‪.‬‬            ‫البكاء‪ ،‬أريد أن أسفح نفسي نهر دموع‪ .‬استسلمت‬
   ‫‪ -‬ك َّذاب‪ ،‬رأيتك بنفسي ترمي الجثة‪ ،‬ظنن َت أن لا‬           ‫لغواية الأحزان في سرها العميق وتعرت كوردة‬
  ‫أحد يراك‪ ،‬فانتهز َت الفرصة لتحطم الرأس المملوء‬             ‫تستقبل شعاع الشمس مطلع النهار‪ ،‬ثم غرست‬
                                                         ‫جذورها فيه وامتصت رحيقه حتى تركته بلا دموع‪.‬‬
                                                            ‫تجمع حش ٌد كبي ٌر في موكب جنازة الشيخ‪ ،‬طافت‬
   103   104   105   106   107   108   109   110   111   112   113