Page 193 - merit 41- may 2022
P. 193

‫‪191‬‬  ‫الملف الثقـافي‬

  ‫يناور جميع ذلك من خلال‬            ‫للفكر‪ ،‬بل زلزلة للوعي‪،‬‬       ‫الصادمة‪ ،‬وهما سمتا الأسئلة‬
    ‫مناورة جسد اللغة ذاته‪،‬‬         ‫وهد ًما للراسخ‪ ،‬وتحوي ًل‬           ‫الحقيقة الأصيلة‪ ،‬أما أن‬
      ‫مناورة كشف وفحص‬            ‫للسائد‪ ،‬ومساءلة للمطمئن‪.‬‬            ‫تتصف الأسئلة بالصدق‬
   ‫وتفكيك وتركيب؛ فتصبح‬             ‫كنت أعتقد طوال حياتي‬
   ‫لغة الإبداع ومجازاته أداة‬        ‫العلمية أن المنهج العلمي‬        ‫المر فلأنها أسئلة تنبع من‬
                                 ‫الأصيل هو الضمير المؤرق‬            ‫أزمات واقعية فعلية بعي ًدا‬
 ‫للتحديث الثقافي والوجودي‬          ‫لروح عصره‪ ،‬وهو كتيبة‬
  ‫والحضاري‪ ،‬قبل أن تكون‬                                                ‫عن وهم اللغة السائدة‬
                                     ‫استطلاع جمالي معرفي‬             ‫التي تطرح أسئلة وهمية‬
       ‫أداة للتحديث الجمالي‬         ‫حر لكشف ثقافته ولغته‬          ‫يسطو فيها التركيب البلاغي‬
      ‫فحسب‪ .‬كنت أوقن أن‬         ‫وتاريخه ونصوصه وواقعه‪.‬‬             ‫الوهمي السائد على تركيب‬
       ‫أي ثقافة من الثقافات‬       ‫المبدعون الكبار لا يبدعون‬        ‫الواقع نفسه فيغتاله‪ ،‬حتى‬
     ‫لن تستطيع أن تؤسس‬            ‫نصوصهم في نطاق الوعي‬            ‫ليسود المجهول على المعلوم‪،‬‬
   ‫مثلها الأعلي إلا على أسس‬      ‫الجمالي وحده‪ ،‬ولا في نطاق‬        ‫فاللغة أغلال وقيود بقدر ما‬
  ‫ركينة من أسسها الواقعية‬        ‫الوعي الثقافي وكفى‪ ،‬بل في‬          ‫هي إفصاح وبيان‪ ،‬وهناك‬
 ‫والتاريخية والمادية والقيمية‬     ‫نطاق الحيز الكامل للخبرة‬         ‫كثير من الأسئلة ليست في‬
‫الخاصة بها‪ ،‬فالثقافة والفكر‬     ‫اللغوية والحضارية والدينية‬          ‫حقيقتها أسئلة‪ ،‬بل رغبات‬
   ‫لا يسموان صوب الكمال‬         ‫الشاملة‪ ،‬أي داخل السياقات‬           ‫لا شعورية دفينة وتواطؤ‬
   ‫غير المحدود إلا من خلال‬      ‫المعقدة لبنية اللغة الكلية التي‬   ‫ثقافي عام‪ ،‬وكلاهما يتواطآن‬
      ‫إنطلاقهما من واقعهما‬          ‫هي الموازي لبنية الوعي‬        ‫م ًعا على وضع الأجوبة محل‬
   ‫التاريخي المحدود الخاص‬          ‫الوجودي نفسه‪ ،‬اللغة في‬            ‫الأسئلة‪ ،‬والفرعيات محل‬
  ‫بهما‪ ،‬أما إذا انطلقت حركة‬      ‫الأدب والنقد م ًعا هي جماع‬          ‫الأساسيات‪ ،‬للهروب من‬
‫الفكر بعي ًدا عن واقعها المحدد‬  ‫الإدراك الثقافي الجمعي العام‬       ‫السؤال الحقيقي‪ ،‬ومن ثمة‬
  ‫الذي نبتت منه فإنها تضل‬           ‫للشعوب‪ ،‬تستدعي فيما‬            ‫كانت الأسئلة الحقيقية مرة‬
‫في أوهام وخرافات وأضاليل‬            ‫تستدعى‪ :‬الذات والوعي‬          ‫وصادمة كما كانت إجاباتها‬
‫تحت مسميات علمية وهمية‪،‬‬         ‫والواقع والثقافة والحضارة‬         ‫صادمة غريبة‪ ،‬لأنها إجابات‬
 ‫إن الواقع هو الجسد الفعلي‬       ‫والدين بكافة صورها‪ ،‬ومن‬         ‫ليست جاهزة مسب ًقا‪ ،‬بل هي‬
       ‫للحياة من حولنا بكل‬          ‫هنا فإننا عندما نتفحص‬          ‫من وحي المأساة والمعاناة‪،‬‬
  ‫ظواهرها ومظاهرها المعلنة‬                                         ‫الأسئلة والإجابات الأصيلة‬
 ‫والخفية‪ ،‬لذا يجب أن يكون‬              ‫ونتأمل بنية اللغة في‬         ‫الفاعلة المنتجة لا نتلقاهما‬
 ‫الواقع والتاريخ والنصوص‬           ‫النصوص الإبداعية فإننا‬           ‫هبة رخيصة‪ ،‬مثلما يتلقي‬
 ‫هم الأصل والمنبع والمصدر‬       ‫نتأمل حدود وعينا الإنساني‬             ‫التلميذ إجابة أسئلته من‬
     ‫المباشر الذي تنطلق منه‬       ‫وهموم إدراكنا الثقافي‪ .‬إن‬          ‫مقرراته السابقة‪ ،‬بل هي‬
       ‫مشكلاتنا وإشكالاتنا‬        ‫الإبداع الفني والنقدي م ًعا‬       ‫تفكيك وألم ومواجهة تنبع‬
 ‫وقضايا أحوالنا ومقتضيات‬            ‫تأسيس جمالي وإصلاح‬                ‫من محنة الواقع الطازج‬
‫وجودنا‪ ،‬فرق كبير أن نعيش‬            ‫ثقافي وسياسي بامتياز‪،‬‬
   ‫الواقع ونكون فيه بالفعل‬                                             ‫الساخن‪ ،‬لا من برودة‬
 ‫وبين أن نتصوره من خلال‬               ‫فالأدب إذ يبني عوالمه‬            ‫النظريات والتصورات‬
  ‫عيون الآخرين‪ ،‬وهو الفرق‬           ‫اللغوية الجمالية الفريدة‬       ‫السائدة المكرورة‪ ،‬فالأسئلة‬
 ‫الكبير في نظري بين الفعلية‬     ‫يناور الوجود والذات واللغة‬             ‫الحقيقية زعزعة كاملة‬
‫والفعالية‪ ،‬فالفعلية أن أعيش‬       ‫والزمان والحرية والإرادة‬        ‫للإجابات السابقة‪ ،‬ولا يمكن‬
                                ‫والحياة والموت دفعة واحدة‪.‬‬       ‫أن تكون منطل ًقا بار ًدا مطمئنًا‬
   188   189   190   191   192   193   194   195   196   197   198