Page 38 - merit 41- may 2022
P. 38

‫العـدد ‪41‬‬  ‫‪36‬‬

                                                          ‫مايو ‪٢٠٢2‬‬

     ‫الخارجية‪ ،‬مما يؤدي لتمديد الفضاء الحميمي‬                  ‫الوسيلة التي بواسطتها يصبح تموقع الأشياء‬
‫ونشوء تدريجي للفضاء الشعري‪ .‬فالفضاء يكتسب‬                   ‫ممكنًا»(‪ .)8‬وبالتالي نعتقد أن الفضاء المعيش ليس‬
‫فعاليته حسب «باشلار» من رغبة الشاعر في جعله‬                   ‫هو هذا العالم المشترك الذي ندركه عبر جسدنا‬
                                                             ‫وحواسنا‪ ،‬بل هو تجربة أصيلة وفريدة تتجاوز‬
     ‫يمتد ويتسع ويطول‪ ،‬ويتجاوز ضيق الداخل‪،‬‬                   ‫الصيغ المعتادة للإدراك المكاني والزماني للعالم‪،‬‬
‫ويضفي الحميمية الذاتية على الخارج‪« ،‬فجعل شيء‬
                                                               ‫وللمبادئ المنطقية للتلفظ‪ ،‬إنه إعادة بناء رؤية‬
  ‫ما فضا ًء شعر ًّيا يعني جعل هذا الفضاء أكبر مما‬                   ‫خاصة للعالم ما تلبث أن تتغير وتتحول‪.‬‬
     ‫هو عليه في الحقيقة (‪ )..‬إنه استمرار في تمديد‬
                    ‫الشاعر لفضائه الحميمي»(‪.)11‬‬               ‫لكن ميزة الفضاء المعيش تكمن أسا ًسا في كونه‬
    ‫في ضوء هذه التحديدات النظرية‪ ،‬سنلاحظ عند‬                   ‫تجربة وجدانية متميزة لا علاقة لها بالتجربة‬
    ‫مقاربتنا لتجربة الفضاء المعيش في ديوان «باب‬
                                 ‫الفتوح» ما يلي‪:‬‬             ‫الحسية‪ ،‬فالتجربة الوجدانية للفضاء هي تجاوز‬
                                                              ‫لفضاء مؤ ِّسس ومشترك‪ ،‬مما ُينتج عند المبدع‬
  ‫‪ -‬الحضور اللافت لمدينة «فاس» باعتبارها فضا ًء‬               ‫عمو ًما نو ًعا من الهوس بالأماكن التي يفتقدها‪،‬‬
      ‫حميميًّا متمي ًزا‪ ،‬فضاء الذكريات والحنين إلى‬               ‫ويقوده إلى الغربة والشعور بالحنين الدائم‬
                                                                ‫إليها‪ .‬هذا الشعور الأخير يدفعه غالبًا للبحث‬
  ‫الماضي الطفولي‪ ،‬إلى مرابع الصبا والشباب‪ ،‬حيث‬                  ‫الدائم والنشيط عن «الفضاء ال ُأ ُمو ِمي»‪ ،‬وعن‬
    ‫يصور الشاعر فضاءات المدينة القديمة‪ ،‬أزقتها‬                   ‫الفضاءات الحميمية‪ .‬فالفضاءات التي يكون‬
                                                                ‫المبدع خارجها تظل تسكنه‪ ،‬وتعيش فيه كما‬
   ‫الضيقة وأبوابها‪ ،‬أسواقها وأضرحتها‪ ،‬جوامعها‬                  ‫يعيش فيها‪ ،‬وهنا تصبح معايشة الفضاء أكبر‬
    ‫ومكتباتها‪ ،‬ففي قصيدة «نواعير فاس» يمارس‬
                                                             ‫من أن ُتشترط بالتفاعل الحسي والإدراك المادي‬
      ‫الشاعر نو ًعا من تمديد الفضاء الحميمي عبر‬           ‫الصرف‪ .‬فالتجربة الوجدانية للفضاء هي في عمقها‬
     ‫تحيين شعري للمعايشة السابقة للمكان‪ ،‬ففي‬               ‫محاولة لإعادة الوجود لما لم يعد موجو ًدا‪ ،‬والعمل‬
 ‫المقاطع الشذرية المعنونة على التوالي بباب الحمراء‬
‫واللمطيين والعطارين والنجارين‪ ،‬وسيدي بوجيدة‬                   ‫على تحيين هذا الآخر الذي نفتقده‪ ،‬وعليه يقفز‬
‫وسيدي العواد والنخالين وجامع الأندلس‪ ،‬وأسوار‬                ‫«المتخيَّل» على السطح كظل وتجسيد لهذا المفقود‪،‬‬
 ‫والمكتبة القادرية ووادي الزيتون وعسالة‪ ،‬يتجول‬            ‫لأن «الواقعي» وحده ليس بمقدوره تحقيق الإشباع‬
  ‫بنا الشاعر ليس في أماكن حقيقية ما زالت معالمها‬
  ‫قائمة‪ ،‬بل في فضاءات حميمية ُم َم َّد َدة تخييليًّا‪ ،‬أي‬         ‫الناتج عن الافتقار لهذا الفضاء الأمومي(‪.)9‬‬
‫أنها ليست هنا فضاءات إسمنتية وطينية بمحدداتها‬                 ‫إن الفضاء الحميمي بحمولاته الرمزية يستطيع‬
  ‫الطوبوغرافية‪ ،‬إنها فضاءات حقيقية ُتنقل لنا عبر‬
 ‫ذات أخرى‪ ،‬ليس كما هي في الحقيقة بل عبر رؤية‬                      ‫ترجمة ظواهر الداخل عبر تفاعل مضطرب‬
  ‫خاصة‪ ،‬تعكس حميمية يسعى الشاعر لسبك لغة‬                  ‫ومتذبذب مع الخارج‪ ،‬وعند التعبير عن هذا الفضاء‬
 ‫ُتكنِّي هذه الفضاءات دون أن تسميها‪ .‬هكذا يصبح‬
                                                               ‫شعر ًّيا‪ ،‬نجد أن هذه الحميمية ومعها التجربة‬
                                 ‫«باب الحمراء»‪:‬‬           ‫الذاتية تحاول أن تتخفى في ثوب التجربة المشتركة‪،‬‬
                                  ‫«رم ٌس ريشي‬
                             ‫يفصل بين قيمتين‪:‬‬              ‫لذلك تعمل على التمدد على مستويين‪ :‬على مستوى‬
                     ‫الباب والاحمرار» (ص‪)119‬‬              ‫الخارج أي كل ما يقع خارج الذات‪ ،‬ثم على مستوى‬
          ‫أما «اللمطيين» فيصير بالنسبة للشاعر‪:‬‬
                             ‫«منعرج مليء بوحل‬               ‫السالف أي كل ما يقع في حيز الماضي‪« ،‬فالفضاء‬
                                  ‫رمم طلاء فمه‬            ‫الشعري بما أنه معبَّر عنه‪ ،‬فهو يتضمن قيم التمدد‬
                     ‫باللحظة الزئبقية» (ص‪)119‬‬
                    ‫في حين أن «العطارين» تغدو‪:‬‬                  ‫والاتساع‪ ،‬إنه ينتمي لفينومينولوجيا السابق‬
                                                                                            ‫والسالف»(‪.)10‬‬

                                                          ‫يوكد «باشلار» هنا على أهمية نقل انفعالية الشاعر‬
                                                            ‫وعاطفته إلى الفضاء الذي يحيط به وإلى الأشياء‪،‬‬
                                                             ‫هذا النقل يضفي نو ًعا من الشاعرية على الأشياء‬
   33   34   35   36   37   38   39   40   41   42   43