Page 213 - ميريت الثقافية- العدد رقم (25) يناير 2021
P. 213

‫‪211‬‬  ‫الملف الثقـافي‬

     ‫هو حقيقة أخرى‪ ،‬كان‬           ‫مشكلة أفلاطون أنه جعل‬       ‫والأهداف رغم العناوين العامة‬
    ‫أفلاطون نسى في لحظة‬         ‫من الحقيقة الفلسفية معيا ًرا‬  ‫والشعارات‪ .‬وعندما نزلت هذه‬
                                                              ‫الاصطلاحات إلى رجل الشارع‬
     ‫سابقة أن ُيسبغها على‬          ‫للحكم على الشعر فطرد‬
     ‫الشعر‪ ،‬ما جعله في فخ‬      ‫الشعراء من جمهوريته‪ .‬فهو‬            ‫وحديث المقهى والندوات‬
    ‫التحريم والإقصاء‪ .‬كما‬       ‫لم يوسع من معنى الحقيقة‬        ‫العامة صارت (إسلامي)! ما‬
   ‫حدث مع الشعر‪ ،‬والفكر‪،‬‬                                      ‫تعبر عن إلهي لا يخطئ أو هو‬
                                   ‫أو من تجلياتها المختلفة‪،‬‬     ‫متزمت مثير للملل والجمود‪،‬‬
      ‫يحدث اليوم مع الفن‬           ‫فهناك الحقيقة الفلسفية‬
  ‫والرسم والنحت والرقص‬                                           ‫وكانت (علماني) تشير إلى‬
                                      ‫والحقيقة الاجتماعية‬      ‫ملحد منحرف يدعو للضلال‪،‬‬
      ‫والتمثيل‪ ،‬ومع الآثار‬     ‫والحقيقة السياسية والحقيقة‬
 ‫التاريخية القديمة‪ .‬السلفية‬                                                ‫فصارت ُشبهة!‬
‫الأصولية‪ .‬لا تنظر إلى العراء‬                     ‫الثقافية‪.‬‬        ‫وهكذا! فبد ًل من التحاور‬
 ‫مث ًل إلا من زاوية الأخلاق‪،‬‬       ‫هذا الفكر النائم ‪-‬بتعبير‬        ‫والتلاقي وتوحيد القوى‬
                                 ‫نيتشه‪ -‬أن نكتفي باختزال‬           ‫ولو اختلفت الأفكار‪ ،‬نجد‬
      ‫أو من زاوية الحقيقة‬      ‫الحقيقة فيما يأتي من الدين‪،‬‬         ‫أننا أضعنا نصف الوقت‬
   ‫الأخلاقية‪ ،‬ولا تذهب إلى‬       ‫أو من الفلسفة‪ ،‬فهذا يعني‬       ‫وأغلب الجهد وكل المرض في‬
‫الفن باعتباره حقيقة أخرى‪،‬‬        ‫إقصاء غيرها من الحقائق‪،‬‬      ‫محاولات عقيمة يثبت فيها كل‬
 ‫تعيد النظر إلى الأشياء‪ ،‬كما‬       ‫والاكتفاء بالرؤية المغلقة‬    ‫واحد أنه ليس أقل من الآخر‬
    ‫تعيد النظر في الأجسام‪،‬‬      ‫العمياء‪ ،‬التي لا تغير نظرها‬     ‫إيما ًنا! فلا بد من البحث عن‬
    ‫لأن الفن لم يكن أخلا ًقا‬   ‫إلى الأمور‪ .‬وكما جاء في نص‬      ‫طريقة لإعادة التعهد بالموقف‬
‫بالمعنى الديني السلفي‪ ،‬فهو‬         ‫صلاح بو سريف (مرآة‬           ‫الثابت الموحد‪ ،‬والذي لم يكن‬
 ‫كان دائ ًما أخلا ًقا في سياق‬  ‫أفلاطون)‪ :‬مصادرة الحقيقة‬       ‫في الحقيقة سوى تكرار بديهية‬
    ‫فني جمالي‪ ،‬يعيد ترتيب‬       ‫باسم حقيقة أخرى هو نوع‬         ‫كان من المفروض ألا تخضع‬
‫الأوضاع وفق منظور يكون‬            ‫من السلفية الأصولية‪ ،‬أو‬     ‫للجدال‪ .‬فالحق في المساواة بين‬
   ‫فيه العراء نو ًعا من النقد‬     ‫هي تكريس لفكر التحريم‬         ‫الطرفين المكملين بالضرورة‬
  ‫لهذا الاحتجاب الذي صار‬          ‫والمنع‪ ،‬ورفض للاختلاف‬            ‫لبعضهما البعض هو حق‬
 ‫قه ًرا لمعنى الطبيعة‪ ،‬ولمعنى‬    ‫والنقد‪ .‬حين لجأ أفلاطون‬          ‫طبيعي لكليهما وللمجتمع‬
‫الإنسان‪ ،‬الذي هو في حاجة‬        ‫إلى أرسطوفان‪ ،‬وهو طريح‬             ‫والفكر‪ ،‬على الرغم من أن‬
 ‫لاختيار بدايته‪ ،‬أعني بداية‬      ‫الفراش‪ ،‬فلأنه لم يعد يجد‪،‬‬     ‫التاريخ يسرد لنا وقائع تقول‬
   ‫خلقه التي كانت عراء في‬          ‫ربما في زمنه‪ ،‬من ينتقد‬         ‫بأن افتئات حق طرف على‬
   ‫أصلها‪ ،‬أليس العراء نق ًدا‬      ‫أو من يعيد تخيل الواقع‪،‬‬       ‫طرف كان في مناطق بعينها‬
   ‫لفداحة هذا التخفي الذي‬         ‫بنفس السخرية التي كان‬           ‫وأزمنة أخرى معكو ًسا‪ .‬لا‬
‫يريد الفكر الماضوي السلفي‬         ‫أرسطوفان‪ ،‬ينتقد بها هذا‬      ‫وجود لحقيقة واحدة في دنيا‬
   ‫أن يفرضه علينا؟ أليست‬           ‫الواقع‪ ،‬أو يعيد تشكيله‪،‬‬      ‫الفكر‪ ،‬وهذا مث ًل ما وقع فيه‬
  ‫شدة الاحتجاب هي دعوة‬             ‫وفق منظور جديد‪ ،‬ليس‬         ‫أفلاطون عندما طرد الشعراء‬
  ‫إلى العراء أو هي بالأحرى‬                                     ‫من مدينته الفاضلة‪ ،‬لأنه كما‬
                                      ‫هو المنظور الذي كان‬      ‫قال أحد المفكرين المعاصرين‪،‬‬
             ‫شدة عراء؟!!‬           ‫الفكر اليوناني غرق فيه‪.‬‬
                                                                    ‫ممن طالتهم يد التكفير؛‬
                                     ‫فأرسطوفان‪ ،‬بالنسبة‬
                                 ‫لأفلاطون‪ ،‬في هذا الوضع‪،‬‬
   208   209   210   211   212   213   214   215   216   217   218