Page 276 - ميريت الثقافية- العدد رقم (25) يناير 2021
P. 276

‫العـدد ‪25‬‬                            ‫‪274‬‬

                                      ‫يناير ‪٢٠٢1‬‬

      ‫تظاهرية وافتراضية‪ ،‬يقول‬          ‫البحث عن صورة للماضي‪ ،‬هي‬               ‫هي ترتيب الأحداث المسرودة‬
     ‫جينيت‪“ :‬يفترض في التاريخ‬         ‫غير تلك التي تدلنا عليها الوثائق‬      ‫منطقيًّا‪ .‬وإذا كان هناك تعارض‬
     ‫والسيرة والسيرة الذاتية أن‬                                           ‫شكلاني بين القصة والحبكة؛ فإن‬
  ‫تعيد إنتاج خطابات ملغاة فع ًل‪،‬‬               ‫والبيانات والمستندات‪.‬‬         ‫التعارض بين القصة والحكاية‬
    ‫ويفترض في الملحمة والرواية‬            ‫وقد أكد آر جي كولينجوود‪،‬‬
‫والخرافة والأقصوصة أن تتظاهر‬           ‫حسب ما ينقل عنه جيم مردوخ‬                ‫عديم المعنى(‪ ،)1‬ما لم يتحقق‬
    ‫بإعادة إنتاج خطابات مختلقة‬        ‫‪ Jim Murdoch‬أ ّن الحبك لم يعد‬            ‫بالدمج بين الثلاثة (القصة‪/‬‬
 ‫وبالتالي أن تنتجها في الواقع”(‪.)3‬‬     ‫في عصرنا هذا قاد ًرا على تعليل‬      ‫الحكاية‪ /‬السرد) وفي هذا الدمج‬
‫وسنقصر حديثنا هنا على التاريخ‬            ‫الزمن التاريخي‪ ،‬لأ ّن التاريخ‬       ‫ُيدخل النص المتخيل المحض في‬
                                       ‫ليس الماضي بمظهر “خارجي”‬             ‫النص التاريخي‪ ،‬فتغدو الحكاية‬
       ‫الذي فيه المحكي التاريخي‬        ‫قابل للملاحظة‪ ،‬بل هناك ما هو‬         ‫داخلة في السرد‪ ،‬على أساس أ ّن‬
   ‫نمط من أنماط تمثيل سرديات‬              ‫“داخلي” لا يمكن وصفه إلا‬          ‫المشكلة ليست في تحبيك الزمن؛‬
  ‫الاستعادة‪ ،‬إذ السارد مؤرخ أو‬           ‫بالمتخيل التاريخي‪ ،‬أي التفكر‬     ‫وإنما في الجهة التي تنطق بالحكي‬
                                                                          ‫التي هي في الأصل ليست متخي ًل‬
     ‫يريد أن ينتحل صفة المؤرخ‪،‬‬             ‫في محكي الأحداث الماضية‬           ‫مح ًضا‪ ،‬بل هي تاريخ متحقق‪.‬‬
  ‫منتز ًعا التأرخة منه‪ ،‬مشك ًكا في‬     ‫والتيقن من أ ّن جز ًءا من الحدث‬    ‫وبهذا التصور الاستعادي للحكاية‬
  ‫مدونات التاريخ‪ ،‬ليخط مدوناته‬       ‫التاريخي يمكن إدراكه باستخدام‬        ‫عند جينيت يصبح ما كان مندر ًجا‬
                                                                               ‫في الحكاية بوصفه متخيلا ٍت‬
      ‫بإبداعه معي ًدا إنتاج التاريخ‬                       ‫حواسنا(‪.)2‬‬        ‫لفظية لتاريخ واقعي‪ ،‬هو النص‬
    ‫بالاستعانة بالمتخيل الحكائي‪.‬‬     ‫والاستعادة الحكائية للتاريخ ترد‬        ‫بعينه وقد تضمن داخله نصين‪:‬‬
    ‫وهو ما ينتج رواية التاريخ(‪)4‬‬     ‫عند جيرار جينيت باصطلاح آخر‬           ‫نص السارد ونص الشخصية أو‬

      ‫ومن أمثلتها (اسم الوردة)‬         ‫هو (السرد مثلي الحكاية) وفيه‬                          ‫الشخصيات‪.‬‬
    ‫لامبرتو إيكو التي فيها يظهر‬        ‫يكون ضمير أنا المتكلم تمييز ًّيا‪،‬‬  ‫وهو ما أراده جيرار جينيت لسرد‬

      ‫هذا الولع باستعادة المحكي‬           ‫لأنه يجعل التبئير واق ًعا على‬        ‫ما بعد الحداثة‪ ،‬أي أن يكون‬
    ‫التاريخي حول غموض العالم‬            ‫السارد بما يجعل نص ال َّسارد‬       ‫السرد مستع ًدا لاستعادة الحكاية‬
 ‫وخطاياه وفعل الشر واللاتناهي‬        ‫هو نفسه ن ُّص الشخصية‪ ،‬بعكس‬
‫في الألوهية‪ .‬وبالشكل الذي يجعل‬         ‫ال َّسرد بضمير الغائب الذي هو‬            ‫في بنائه النصي‪ .‬واستعادة‬
 ‫المتخيل الحكائي قاد ًرا على تفنيد‬       ‫غير ّي القصة‪ ،‬لأ ّن فيه يتنافر‬     ‫الحكاية تعني إعادة التمثيل إزاء‬
    ‫ما حفظه التاريخ‪ ،‬يقول إيكو‪:‬‬
    ‫“ولفهم الأحداث التي وجدت‬              ‫صوت الشخصية مع صوت‬
    ‫نفسي أشارك فيها فه ًما جي ًدا‬      ‫السارد‪ ،‬وعندها يقع التبئير على‬
    ‫قد يكون من الأفضل أن أذ ِّكر‬        ‫الحدث المسرود متحو ًل به من‬
 ‫بما كان يحدث في تلك الفترة من‬          ‫الحكي إلى القص‪ .‬وهذا التعاقد‬
‫بداية القرن كما فهمتها آنذاك وأنا‬    ‫على إعادة صياغة الخيالي في شكل‬
  ‫أعيشها‪ ،‬وكما أتذكرها الآن وقد‬
   ‫أضيفت إليها حكايات سمعتها‬            ‫واقعي هو تحويل للشفهي إلى‬
 ‫من بعد أن استطاعت ذاكرتي أن‬            ‫مكتوب‪ ،‬فتكون الحكاية حكاية‬
   ‫تصل بين خيوط تلك الأحداث‬
                                           ‫أفكار‪ ،‬والرواية رواية بحث‬
     ‫المتعددة والغامضة ج ًّدا”(‪.)5‬‬      ‫كسيرة ذاتية أو رواية نفسية‪،‬‬
   ‫وهو ما فطن له أي ًضا الروائي‬         ‫وهذه هي أهم تمثيلات السرد‬
                                      ‫مثلي الحكاية حيث القصة تصنع‬
      ‫المصري جمال الغيطاني في‬
   ‫رواية التاريخ (الزيني بركات)‬                       ‫نفسها بنفسها‪.‬‬
                                            ‫وبهذا تكون مثلية الحكاية‬
                                          ‫استعادية بينما غيرية القص‬
   271   272   273   274   275   276   277   278   279   280   281