Page 40 - مسيلة للدموع
P. 40

‫«السلام عليكم يا وطني الحقيقي‪..‬‬
                                                                                    ‫اشتقت إليكم جميعا‪..‬‬

      ‫أتذكرين يا أمي حينما كنت صغي ار‪ ،‬وكنت تمنعينني من النزول إلى الشارع؛ خوفا عل ّي‪ ،‬ها أنا أشتاق‬
                           ‫للعيش ولو للحظات في منزلنا‪ ،‬وأدركت كم أن المنزل هو معنى من معاني الوطن‪.‬‬

      ‫اشتقت لأن نجتمع معا‪ ،‬حيث نشعل المدفأة‪ ،‬ونجلس سويا‪ ،‬ولصوت أبي بيننا وم ازحه معنا‪ ،‬وأن أرتمي‬
                                                   ‫بين أحضانك‪ ،‬وأنال غفوة طويلة‪ ،‬فأزداد دفئا على دفء‪.‬‬

      ‫اشتقت لطعام فاطمة إذ تذهب في ذلك الحين لتعد العشاء‪ ،‬فتختلط ارئحة الخبز الساخن ب ارئحة المدفأة‬
      ‫و ارئحتك يا أمي‪ ،‬فأتمنى لو تطيل فاطمة إعداد الطعام؛ لأنعم بأكبر قدر من الأمان الذي أحصل عليه‬

                                                                                            ‫بين ذ ارعي ِك‪.‬‬
      ‫وها قد انتهى العشاء‪ ،‬وانطفأت المدفأة‪ ،‬ورحل أبي حيث رحلت أنا‪ ،‬وتغربنا عن حضن ِك وعن منزلنا‪ ،‬ولم‬

                                                                        ‫يعد هناك دفء أو أمان أو وطن‪.‬‬
                                                                              ‫وأنت يا حورية‪ ،‬كيف حالك؟‬

      ‫أعلم أنه كان يجب أن نكون معا تلك الفترة‪ ،‬فأزورك بين الحي ِن والآخر‪ ،‬أطمئن ِك وتطمئنينني‪ ،‬نفهم بعضنا‬
                             ‫أكثر‪ ،‬ونتحدث عن أحلامنا للمستقبل‪ ،‬وبيتنا الجديد‪ .‬سامحيني لأنني لس ُت مع ِك‪.‬‬

      ‫شعوٌر قا ٍس ألّا أعرف عنكم شيئا‪ ،‬ألا أتلقى منكم أي شيٍء‪ ،‬لا مكالمات‪ ،‬ولا جوابات‪ ،‬ولا أنال حق‬
                                                                                                 ‫رؤيتكم‪.‬‬

      ‫وان معاناتي الكبرى ليست النوم على ضفاف الشوارع أو قلة الطعام وانعدام الأمن‪ ،‬بل ُجل ما يؤرقني‬
                                                                       ‫غيابكم عني‪ ،‬وحرماني من رؤيتكم‪.‬‬

      ‫ادعوا لي‪ ،‬وسأدعو لكم‪ ،‬فإن أَبت الأرض أن تجمعنا التقت أسماؤنا عند باب السماء‪ .‬السلام من الله‬
                                                                                ‫عليكم‪ ،‬والسكينة‪ ،‬والأمان‪.‬‬
                                                                                      ‫آسر عبد الرحمن»‪.‬‬

      ‫أعاد آسر ق ارءة الورقة قبل أن يضعها في الظرف ويرسلها‪ ،‬فاتسعت عيناه فزعا‪ ،‬قائلا في نفسه‪« :‬ما هذا‬
      ‫الذي كتبته؟ إنني هكذا لا أطمئنهم‪ ،‬بل أزيد آلامهم‪ ،‬وأدوس على جروحهم‪ ،‬فيتوجعون أكثر‪ ،‬ويزدادون قلقا‬

                                                                                         ‫وه ًّما وانشغالا»‪.‬‬
                                             ‫تن َّهد آسر تنهيدة حزينة ثم مَزق الورقة‪ ،‬وهّم بكتابة جواب جديد‪.‬‬

‫‪40‬‬

                                                                                            ‫مسيلة للدموع‬
   35   36   37   38   39   40   41   42   43   44   45