Page 71 - مسيلة للدموع
P. 71

‫أطلقت السجينات ضحكاتهن الساخرة‪ ،‬شعرت تالا بالضياع أكثر‪ ،‬خاب أملها عندما لم تجد سجينة‬
          ‫سياسية معها‪ ،‬كانت ربما ستأنس بوجودها‪ ،‬وتشد إحداهما عضد الأخرى عند لحظات الوهن والحنين‪.‬‬

      ‫استلقت تالا على الأرض في رك ٍن من أركان الزن ازنة الضيَّقة‪ ،‬كل شيء في الزن ازنة موحش وكئيب؛‬
      ‫الأرضيات الأسمنتية‪ ،‬مصباح الزن ازنة الأصفر الباهت الذي بالكاد ُيضيء‪ ،‬والجد ارن المزدحمة‬
      ‫بالرسومات والخطوط المتداخلة‪ ،‬ارئحة دخان السجائر‪ ،‬وروائح مختلطة من أنواع أخرى من المخد ارت‪،‬‬

                            ‫امتزجت مع ارئحة العرق‪ ،‬وتداخل الأنفاس‪ ،‬في هذه الزن ازنة شبه معدومة التهوية‪.‬‬

      ‫انقلبت تالا لتنام على أحد جنبيها‪ ،‬انكمشت على نفسها حتى كادت ركبتاها تلتصق بوجهها‪ ،‬كجنين‬
      ‫ساخط على العالم يرفض العيش فيه‪ ،‬ويريد العودة إلى بطن أمه من جديد‪ ،‬كانت تشعر بالبرد الشديد‬
      ‫لكنها لم تِرد أن تسأل هؤلاء الجنائيات عن غطاء‪ ،‬لم ترد أن تحتك بهنمطلقا‪ ،‬وحتى إن سألتهن فإن‬
      ‫غطاء السجن خفيف جدا‪ ،‬لا يقي من البرد‪ ،‬ومن أ ارد غطاء جيدا فعليه أن يخبر أهله؛ حتى يحضروا له‬
      ‫واحدا في الزيارة‪ ،‬وحينها يقرر مأمور السجن هل سيسمح بدخول ما يأتي به الأهل في الزيارة أم لا‪،‬‬
      ‫فمجرد الشعور بالدفء هنا يحتاج الكثير من الإج ارءات‪ ،‬كالمحايلات‪ ،‬وتحمل الإهانات‪ ،‬والتفتيش الدقيق‪،‬‬

        ‫وبالتأكيد يحتاج لتلك العملات الورقية (المكرمشة) ‪ -‬أعني الرشوة‪-‬ومع ذلك يظل الدفء غير مضمون‪.‬‬

      ‫كانت تالا ترتجف‪ ،‬تذكرت مريم ابنة دينا التي استأمنتها عليها قبل أن ترحل‪ ،‬كيف لها أن تعتني بها وهي‬
      ‫مسجونة؟ كيف لها أن تصون الأمانة وتفي بالوعد؟ فالذي قتل دينا هو من اعتقل تالا‪ ،‬وهو من يَتّم مريم‬

                                                                                               ‫الصغيرة‪.‬‬

      ‫نظرت تالا إلى جد ارن الحائط المشوشة كتفكيرها تماما‪ ،‬فأفكارها مختلطة ببعضها البعض‪ ،‬تطغى فكرة‬
      ‫على أخرى‪ ،‬وتصارع خاطرةٌ خاطرة أخرى‪ ،‬وبين أفكار وخواطر‪ ،‬وخليط من المشاعر المتخبطة‬
      ‫المضطربة ظلت تالا تسبح‪« :‬هل يا تُرى مريم الصغيرة ترتجف من البرد مثلما أرتجف؟ وتبكي مثلما‬
      ‫أبكي؟ خائفة كخوفي؟ تشعر بالوحدة مثلما أشعر؟ وتعانقها الَوح َش ُة إذا حاوَلت النوم‪،‬وتُبّيتها ب ُمر يل َعن كل‬

                                                                                                ‫الضْيم»‪.‬‬

      ‫انتفضت تالا جالسة عندما سمعت صوت باب الزن ازنة ُيفتح‪ ،‬ذلك الصوت سيّئ ال ُسمعة في ذاكرة تالا‪،‬‬
      ‫لّفت أرسها نحو الباب بفزع لترى ما الذي يحمله الباب من أخبار‪ ،‬هل سيأخذونها للتحقيق مرة أخرى‪ ،‬هل‬
      ‫سيجبرونها على الاعت ارف بأشياء لم تفعلها‪ ،‬كل تساؤلاتها كانت تدور حول قضيتها فقط‪ ،‬تشعر وكأن‬

               ‫السجن وزنازينه وغرف تحقيقه وكل شيء فيه‪ُ ،‬صنع خصي ُصا لاعتقالها‪ ،‬وحبس حريتها وحسب‪.‬‬

‫‪71‬‬

                                                                                            ‫مسيلة للدموع‬
   66   67   68   69   70   71   72   73   74   75   76