Page 29 - m
P. 29

‫‪27‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

  ‫تصبح حركة انسيابية خالية من الصراع بمعناه‬         ‫مكا ًنا مغاي ًرا عن المعتاد في الحبكة التقليدية‪ ،‬فمنطقة‬
   ‫المباشر‪ ،‬فصورة «خلف البناء» في بداية الحركة‬         ‫التنوير عنده تنحدر إلى آخر سطر في النص مما‬
 ‫صورة رافضة متعالية ‪-‬يلاحظ هنا التقابل الحاد‬               ‫يجعله في حالة من التوقع الدائم‪ ،‬يساعد على‬
                                                       ‫جلب حالة التوقع هذه إمكانات السرد والوصف‬
      ‫بين رمز البناء وما يلتبسه وبين واقعه الحي‬       ‫والحوار‪ ،‬وهذا من شأنه أن يجعل النص احتماليًّا‬
‫كبنَّاء‪ -‬وبالتدرج يعطي السرد صورة ثانية للبناء‪،‬‬
 ‫تزاوج بين القلق الذي يساوره وبين رفض الواقع‬         ‫لدرجة عالية‪ ،‬هذه الاحتمالية يساهم فيها وتتوزع‬
                                                          ‫على كل التقنيات السابقة مما يقرب النص من‬
   ‫كجزء من الصورة الأولى‪ ،‬وبين مستوى الواقع‬                               ‫منطقة الشعر اقترا ًبا كبي ًرا‪.‬‬
 ‫الحي للبناء الذي يتجاوزه إلى التداخل مع مفردات‬           ‫فشعرية السرد التي اتخذ منها المؤلف ذريعة‬

      ‫السرد الأخرى والتي يمكن أن تقع في دائرة‬        ‫لينتزع صورة كلية لموقفه من العالم ولإيجاد حلقة‬
    ‫المفعولية بالنسبة لحركة الذات الأولى‪ ،‬وتقع في‬        ‫وصل بينه وبين منطقة كائناته‪ ،‬هذه الصورة‬
  ‫دائرة الفاعلية بالنسبة لحركة الذات الثانية‪ ،‬وهي‬
‫صورة الأب ومكانته التي صنعها لنفسه أو صنعت‬             ‫تتوزع على موتيفات يخلقها المؤلف بوعى ليجعل‬
 ‫له‪ ،‬وفى حركة ثالثة للصورة يظهر البنَّاء في موقع‬      ‫منها مرجعية تصويرية يحاور بها الواقع والكون‬
‫المتحفز لمعرفة الماضي‪ ،‬المجهول بالنسبة له‪ ،‬المعلوم‬
  ‫بالنسبة للأب‪ ،‬مما يجعل الصراع أكثر رمزية في‬              ‫ومخلوقاته‪ ،‬أستخدم كلمة كائنات هنا مكان‬
  ‫إحالته إلى الواقع المتميع الذي يحيط بذات الفاعل‬    ‫شخوص بقصد الإيحاء بالعالم القصصي للمؤلف‪،‬‬
  ‫«البنَّاء»‪ ،‬وذلك في لغة شعرية تجعل من الحركات‬      ‫ففي قيثارة خلف البناء تتبدى شعرية السرد بزهو‬
  ‫السابقة صو ًرا شعرية أصغر تصلح لأن تشارك‬          ‫كامل فتغطي على مناطق الحكي الأخرى وهي مهمة‬
 ‫بتشكيلاتها في خلق الإيحاء اللازم لشعرية السرد‬        ‫– أي ًضا – في تخليص النص من أسر الواقع الممكن‬
 ‫«انحناءة بسيطة في ظهره الكثير الصحو والنجوم‬         ‫إلى أفق المحتمل من خلال المقابلة التي تعتمد أحيا ًنا‬
 ‫ما زالت تزين وجه السماء تنبيه الوجه بحفنة ماء‬
  ‫بارد إكمال شطرة القول بين الأجسام المتلاصقة‬           ‫على السخرية كأداة فنية لتعرية الواقع بأبعاده‬
  ‫داخل هيكل القرية الصدئة»‪ ،‬ويقول أي ًضا‪« :‬أمام‬     ‫المختلفة‪ ،‬سواء كان واق ًعا فلسفيًّا ميتافيزيقيًّا كما في‬
  ‫الحيطان العالية المنمقة كان الشارع خاليًا إلا من‬  ‫«خلف البناء»‪ ،‬أو كان واق ًعا رمز ًّيا كما في «الإهانة»‪،‬‬
‫القطط الهاربة وقد صمت الإسفلت اللامع! وناديت‬        ‫أو كان واق ًعا تصور ًّيا كما في «أسراب النمل»‪ ،‬وهذه‬

     ‫على كل البنايين ذوي الثياب الخلقة‪ ،‬والذقون‬           ‫هي الملاحظة الأولى الخاصة بشعرية السرد‪.‬‬
‫النابتة‪ ،‬وناديت على كل من يبني‬
                                                                     ‫‪-2-‬‬
          ‫ألا يبني لأنه خلف»(‪.)1‬‬
                                                                      ‫الملاحظة الثانية تتصل بسيطرة‬
    ‫‪-3-‬‬                                                               ‫شعرية السرد على حركة النص‬

   ‫تقودنا هذه الشعرية السردية‬                                               ‫وبخاصة حركة الوحدات‬
    ‫إلى ملاحظة ثالثة مهمة وهي‬                                             ‫الأسمية‪ ،‬والتي تعطى دلالة‬
    ‫غالبًا ما تقع بين عالم المؤلف‬                                          ‫على سيطرة الذات الأخرى‬
  ‫وعالم القارئ والناقد‪ ،‬وتصلح‬                                             ‫المتوارية خلف الذات الأولى‪،‬‬
‫لأن تكون في رأيي مفتا ًحا لقراءة‬                                         ‫والتي تمارس حركة مباشرة‬
     ‫«أسراب النمل»‪ ،‬تتمثل هذه‬                                              ‫تدل عليها الوحدات الفعلية‬
‫الملاحظة في كلمات جيرار جينت‪:‬‬                                           ‫الواردة في النص‪ ،‬وهي نسبة‬
‫إذا كان الكاتب يتساءل عن العالم‬                                        ‫كبيرة ‪-‬أي ًضا‪ -‬ولكنها أقل من‬
                                                                      ‫سيطرة الأسمية عليها‪ ،‬وبالتالي‬
                                                                         ‫فإن حركة الأسمية في النص‬
   24   25   26   27   28   29   30   31   32   33   34