Page 39 - m
P. 39

‫‪37‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

                                                 ‫شريف صالح‬

 ‫قيام وانهيار الصاد شين‪..‬‬
‫فوضى الفناء الخلفي للعالم‬

      ‫حمدي أبو جليل وهو يكتب تجربته بكل تخييلها الذاتي‪ ،‬وتدفقها‬

‫العاطفي‪ ،‬وهزليتها‪ ،‬وتمردها على معيارية اللغة وقواعد السرد الروائي‬

   ‫الكلاسيكي‪ ،‬كان في الوقت نفسه مخل ًصا لآبائه الشرعيين‪ ،‬ومستم ًدا‬
 ‫منهم شجاعة اتخاذ خطوة تبعد بالسرد الروائي عن حسابات الجوائز‬

‫والوجاهة الاجتماعية ورضا النقاد‪ ،‬للإمساك بالفناء الخلفي للعالم بكل‬
  ‫جنونه وتشظيه وفساده وشهوانيته وتحلله من أي قيمة تذكر‪ .‬وبد ًل‬

‫من أن تدغدغ الرواية مشاعر قارئ يتصيد ُجمل التنمية الذاتية الحكيمة‬
               ‫المنمقة‪ ،‬فقد جاءت الكتابة صادمة‪ .‬وربما مثيرة للتقزز‪.‬‬

‫والفحم‪ ،‬وفوق أسطح الأحياء الأوروبية الخلابة‪،‬‬      ‫لا يبدو العالم برا ًقا‪ ،‬وسكانه لا يشبهون أولئك‬
    ‫تتناثر غرف قبيحة تعج بالفوضى والجريمة‪.‬‬
                                                    ‫الرجال الوقورين والنساء المتأنقات في حفلات‬
‫لا يكتب الروائي حمدي أبو جليل في روايته «قيام‬                                       ‫دور الأوبرا‪.‬‬
  ‫وانهيار الصاد الشين» عن كل هذا البريق الذي‬
    ‫يتسابق الروائيون للكتابة عنه ونيل الحظوة‪،‬‬           ‫لا تبدو السماء صافية الزرقة كتلك البادية‬
                                                      ‫في البطاقات السياحية ولا أمواج البحر بتلك‬
‫وإنما عن ذلك الفناء الخلفي‪ ،‬عما تبقى من أطعمة‬
     ‫في «مقلب الزبالة» وليس عن المائدة العامرة‪.‬‬         ‫الرومانسية المغوية بقصص صيفية طيبة‪.‬‬
                                                       ‫ليس العالم آمنًا كي يوفر لك جدرا ًنا وثلاث‬
  ‫لا يهتم برحلة صعود الإنسان المسكون بمعاني‬            ‫وجبات وملعقة دواء‪ ،‬ولا يشبه تلك الأفلام‬
    ‫عظيمة كالعدالة والحرية والكرامة الإنسانية‪،‬‬      ‫والمسلسلات الحافلة بصور عاطفية دافئة‪ ،‬ولا‬

‫وغير ذلك من شعارات مستهلكة‪ ،‬بل عن «حيونة‬                     ‫الروايات التي تنال الرضا والجوائز‪.‬‬
    ‫الإنسان»‪ .‬عن أولئك الذين اختاروا‪ ،‬أو اختار‬   ‫إن سطح العالم خشن‪ ،‬وفي أعماقه تمور صراعات‬
   ‫لهم القدر‪ ،‬أن يجروا في الحياة جري الوحوش‬       ‫أشد فت ًكا من غابة الوحوش‪ ،‬ولا أحد في الحقيقة‬
    ‫من أجل لقمة العيش‪ ،‬وكل موقف يخوضونه‬
                                                     ‫يعرف كيف ينجو منه إلا بضربة حظ‪ .‬ومهما‬
  ‫على حافة الحياة‪ ،‬بمثابة حياة أو موت‪ ،‬قاتل أو‬   ‫تظاهر بنو الإنسان بما حققته حضاراتهم المختلفة‬
                                        ‫مقتول‪.‬‬
                                                        ‫من رفاهية ومنجزات‪ ،‬يظل ثمة فناء خلفي‬
      ‫أشخاص لا يزينون حيواتهم بشعارات ولا‬         ‫للبشرية‪ ،‬فت ْحت سطح السفن السياحية العملاقة‬
     ‫استعارات‪ ،‬بل لا يملكون إلا بذاءة القاموس‪،‬‬    ‫ثمة طبقة من العمال الغارقين في البؤس والعرق‬
   34   35   36   37   38   39   40   41   42   43   44