Page 45 - m
P. 45

‫‪43‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

   ‫ويجعلها مع أول إعمال للعقل تتهاوى وتنهار‪.‬‬
‫وفلسفة السخرية هنا تذكرنا بالمبدا الذي وضعه‬

  ‫فليسوف ومؤسس عالم الاجتماع عبد الرحمن‬
    ‫بن خلدون حين قال بضرورة قياس الشاهد‬
      ‫على الغائب أثناء تعاملنا مع التاريخ‪ ،‬فحين‬
   ‫يقال إن عوج بن عناق كان ينحني ليلتقط من‬

  ‫البحر حو ًتا ثم يرفعه ويضعه في عين الشمس‬
‫ليشويه ويأكله‪ ،‬فلا بد أن نسأل أنفسنا عن قدرة‬

  ‫الإنسان الراهن على فعل هذا أو نصفه أو حتى‬
 ‫ربعه‪ ،‬فإن لم يستطع فإن الحكاية مجرد خرافة‬

                           ‫لا علاقة لها بالمنطق‪.‬‬
‫السخرية لدى حمدي ابو جليل ومحمد مستجاب‬

    ‫تقوم على نفس المبدأ‪ ،‬وإذا كان مستجاب هو‬
‫الذي يصنع الأسطورة ويضع فيها الثغرات التي‬

    ‫تهدمها‪ ،‬فإن حمدي كان يقدم الأسطورة كما‬
   ‫يشهدها الواقع‪ ،‬أو كما رويت له وسمعها‪ ،‬ثم‬
   ‫يقوم بنقضها أو هدمها‪ ،‬كاش ًفا عن مدى عبث‬
‫الحياة التي يعيشها أو تعيشها جماعته البشرية‪،‬‬
‫وكأنه يعيد موضعة الذات أو الجماعة في موقعها‬
 ‫الصحيح من العالم الذي تعيشه‪ ،‬وليس المتخيل‬

                                 ‫الذي تحلم به‪.‬‬
  ‫وهو ما يذكرنا بالأب الروحي للرواية الحديثة‪،‬‬

          ‫صاحب ملحمة دون كيخوته‪ ،‬فقد رأى‬
       ‫سيرفانتس أن قصص القديسين الم َّشائين‬
 ‫أصبحت مبال ًغا فيها بشكل لا يقبله المنطق‪ ،‬ومن‬
   ‫ثم اخترع شخصية دون كيخوته الذي صدق‬
  ‫كل هذه القصص وقرر أن يعيد إنتاجها‪ ،‬وخلق‬
 ‫إلى جانبه شخصية‬
 ‫معاونه “سانشو”‬
   ‫المرتاب في أفعال‬
      ‫دون كيخوته‪،‬‬
   ‫ومن ثم كنا نرى‬
      ‫الأسطورة أو‬
‫التوهمات كما يراها‬
   ‫دون كيخوتة‪ ،‬ثم‬
   ‫ما نلبس أن نرى‬
 ‫الواقع على حقيقته‬
 ‫كما يراه سانشو‪..‬‬
 ‫وقد استلهم حمدي‬
   40   41   42   43   44   45   46   47   48   49   50