Page 196 - merit 49
P. 196

‫العـدد ‪49‬‬                             ‫‪194‬‬

                                ‫يناير ‪٢٠٢3‬‬                     ‫من ظلمهم وتجبرهم وشناعة‬
                                                                  ‫سلوكهم‪ ،‬هو أمر لا يتفق‬
    ‫إنه كان يبيت بالجوع في‬         ‫«المنصوري» قال‪« :‬إن أمر‬        ‫من قريب أو من بعيد مع‬
  ‫مبدأ اشتغاله بالعلم‪ ،‬شديد‬        ‫ولي الأمر بإبطاله لا يسلم‬
 ‫الاجتهاد في العلم والشكيمة‬        ‫له و ُيخالف أمره لأن ذلك‬    ‫صدقية أو واقعية أو تاريخية‬
   ‫في الدين‪ ،‬يكره السفاسف‬          ‫مخالف للشرع‪ ،‬ولا يسلم‬          ‫التصور المثالي عن مشايخ‬
                                    ‫للإمام في فعل ما يخالف‬         ‫يصدعون بالحق في وجه‬
    ‫وينهى عن شرب الدخان‬
  ‫ويمنع من شربه بحضرته‪.‬‬              ‫الشرع ولا لنائبه أي ًضا»‬  ‫الظالمين بلا تخاذل ولا تهيب!‬
  ‫وكان الأمير «محمد بك أبو‬                 ‫وكان له ما أراد‪.‬‬         ‫ولا أمل في التوفيق بين‬
‫الدهب» لا يرد له شفاعة أب ًدا‪،‬‬
   ‫فكل من تعسر عليه قضاء‬             ‫ومنهم شخصية «محمد‬          ‫الأمرين ‪-‬الانحياز للمماليك‬
 ‫حاجة كان يذهب إلى الشيخ‬          ‫الحفناوي» (توفي ‪1767‬م)‬            ‫ومهابة المشايخ‪ -‬إلا في‬
  ‫وينهي إليه قصته‪ ،‬فيكتبها‬         ‫ويوصف بالعفاف والكرم‬
                                ‫والمهابة وجميل السجايا‪ ،‬وقد‬    ‫افتراض تعايش هذا التناقض‬
   ‫مع غيرها في قائمة يذهب‬          ‫احتفى به البكوات المماليك‬       ‫ذاته‪ ،‬أي أن نطق المشايخ‬
   ‫بها للأمير‪ ،‬وعندما يستقر‬                                        ‫بكلمة الحق لم يكن يمنع‬
   ‫به الجلوس يخرج القائمة‬             ‫والباشاوات العثمانيين‬
‫من جيبه‪ ،‬ويقص ما فيها من‬           ‫وتهافتوا على تلبية طلباته‬   ‫البكوات المماليك ‪-‬ولا غيرهم‬
  ‫القصص والدعاوى‪ ،‬واحدة‬           ‫وقبول وساطته عن الناس‬          ‫بطبيعة الحال‪ -‬من ظلمهم‪.‬‬
  ‫بعد واحدة‪ ،‬ويأمره بقضاء‬          ‫لجميل سجاياه‪ ،‬وقال فيه‬       ‫وتلك هي الحقيقة التاريخية‬
 ‫كل منها‪ ،‬والأمير لا يخالف‪،‬‬     ‫بعض الأمراء (البكوات) حين‬                      ‫بحذافيرها‪.‬‬
 ‫ولا يتقبض خاطره في شيء‬            ‫قيل له‪ :‬الأستاذ الحفناوي‬         ‫لدينا تراث من القصص‬
  ‫من ذلك! ويقول «الجبرتي»‬           ‫من عجائب مصر‪ ،‬بل قل‬         ‫المثالية عن شخصيات دينية‬
   ‫‪-‬بما يشبه الوله‪ -‬إنه كان‬        ‫من عجائب الدنيا! ويحكي‬         ‫تامة المهابة ونافذة الكلمة‬
‫يمسك بيد الأمير ويقول‪« :‬أنا‬      ‫«الجبرتي» عن تدخل الشيخ‬       ‫لدى الحكام والأمراء‪ ،‬ولدينا‬
‫خايف على هذه اليد الكويسه‬                                           ‫في نفس التراث قصص‬
‫من النار‪ ،‬وأمثال ذلك»‪ .‬ورأي‬          ‫«الحفناوي» خلال نزاع‬           ‫فظائعية عن فحش ظلم‬
    ‫«الجبرتي» أنه «لم يخلِّف‬       ‫مسلح بين الأمراء على أثر‬         ‫واستبداد هؤلاء الحكام‬
                                                                  ‫والأمراء‪ .‬تلك الشخصيات‬
                ‫بعده مثله»!‬          ‫مسعى «علي بك الكبير»‬           ‫الدينية ذات النفوذ التي‬
  ‫على هذا النحو يمكن لنا أن‬        ‫للظفر بمنصب شيخ البلد‪،‬‬           ‫عرفها العصر العثماني‬
  ‫نستشف بدقة كافية طبيعة‬          ‫فقال لهم‪« :‬أخربتم الأقاليم‬            ‫والمملوكي ويصفها‬
  ‫الوظيفة التي كان يقوم بها‬         ‫والبلاد‪ ،‬في أي شيء هذا‬      ‫«الجبرتي» بالعلم والصلاح‬
‫المشايخ في المجتمع المملوكي‪،‬‬       ‫الحال وكل ساعة خصام‪،‬‬            ‫والزهد في الدنيا‪ ،‬الشيخ‬
  ‫وهي وظيفة «الوساطة» أو‬           ‫ونزاع‪ ،‬وتجاريد‪ ،‬علي بيك‬      ‫«سليمان المنصوري» (توفي‬
 ‫«التوسط» بين طائفة الأمراء‬     ‫هذا رجل أخوكم وخشداشكم‬           ‫‪1756‬م) ويقول إنه وردت‬
   ‫المماليك وبين بقية طوائف‬     ‫(زميلكم بالتركية)‪ ،‬أي شيء‬         ‫على أيامه مراسيم من دار‬
                                ‫يحصل إذا أتى وقعد في بيته‪،‬‬           ‫السلطنة بإبطال بعض‬
     ‫المجتمع المصري في ذلك‬                                        ‫المرتبات (الصدقات) التي‬
‫الوقت‪ .‬وكانت وظيفة المشايخ‬          ‫واصطلحتم مع بعضكم‪،‬‬            ‫جرت العادة بصرفها من‬
                                   ‫وأرحتم أنفسكم والناس»!‬      ‫ريع الأوقاف‪ ،‬وقال القاضي‬
    ‫نابعة من تركيب المجتمع‬                                        ‫إن أمر السلطان لا يخالف‬
  ‫الطائفي وطبيعة الدولة معا‬         ‫ويقول «الجبرتي» إنه لم‬       ‫ويجب إطاعته‪ ،‬لكن الشيخ‬
                                     ‫يسعهم سوى الامتثال‪.‬‬
    ‫في ذلك العصر‪ .‬فلم يكن‬             ‫ومن تلك النماذج أيضا‬
   ‫للدولة في تلك العصور أي‬           ‫الشيخ «علي الصعيدي»‬
                                ‫(توفي ‪1775‬م) ويقول المؤرخ‬
   191   192   193   194   195   196   197   198   199   200   201