Page 221 - ميريت الثقافة رقم (33)- سبتمبر 2021
P. 221

‫‪219‬‬  ‫الملف الثقـافي‬

‫ما يؤكد هذا الفهم الغريب‪،‬‬         ‫سيد هذا الرأي و َم ْن أتى‬        ‫فقيل له في ذلك‪ .‬فقال‪:‬‬
    ‫فيقول ماد ًحا له‪« :‬مثله‬          ‫من بعده ينقلونه عنه‬          ‫وجدت شعره كله جي ًدا‪.‬‬
                                                               ‫فدلني على أنه كان يصنعه‪،‬‬
‫مثل صاحب ال ُخلقان‪ ،‬ترى‬        ‫ويؤيدونه في القرنين الثاني‬    ‫وليس هكذا الشعر المطبوع»‪،‬‬
  ‫عنده ثوب ع ْصب وثو َب‬             ‫والثالث‪ ،‬وعلى رأسهم‬        ‫وهو تبرير عجيب ومريب‪،‬‬
     ‫خ ّز‪ ،‬وإلى جنبه َس َم ُل‬                                   ‫فالأصمعي ‪-‬في رواية ابن‬
    ‫ِكسا ٍء»‪ ،‬أي عنده الجيد‬      ‫الجاحظ‪ ،‬ولعل ذكر بعض‬         ‫جني‪ -‬ينتقص الحطيئة لأن‬
                                ‫آراء الأصمعي يكشف هذا‬        ‫«شعره كله جيد»‪ ،‬وليس لأنه‬
‫والرديء والوسط‪ ،‬ووجود‬           ‫الموقف‪ ،‬يقول ماد ًحا شعر‬      ‫رديء‪ ،‬وهذا وجه العجب في‬
   ‫هذا التفاوت هو العلامة‬        ‫أبي العتاهية إنه «كساحة‬      ‫التبرير‪ ،‬ويشرح ابن رشيق‬
   ‫على أصالة الشاعر وأنه‬                                         ‫سبب انتقاص الأصمعي‬
   ‫كان يقول ما تجيش به‬             ‫الملوك يقع فيها الجوهر‬    ‫لشعر زهير والحطيئة بقوله‪:‬‬
                ‫خواطره‪.‬‬          ‫والذهب والتراب والخزف‬       ‫«يريد أنهما يتكلفان إصلاحه‬
   ‫ومع ابن قتيبة وكتاباته‬        ‫والنوى»‪ ،‬وكلامه مفض ًل‬           ‫ويشغلان به حواسهما‬
   ‫المريبة‪ ،‬والتي يجمع في‬        ‫شعر النابغة الجعدي لأنه‬          ‫وخواطرهما»‪ ،‬وواضح‬
    ‫نفس الكتاب منها بين‬         ‫«مختلف الشعر»‪ ،‬وبتعبير‬
     ‫الرأي وضده‪ ،‬ويدافع‬          ‫الأصمعي « ِم ْط َرف بالآف‬         ‫أن ما يعيبه الأصمعي‬
  ‫عن كليهما‪ ،‬ولعل مقدمة‬        ‫وخمار بواف»‪ ،‬أي فيه الغث‬          ‫هو وجود «تاريخ خفي»‬
  ‫«الشعر والشعراء» وعلو‬                                        ‫للقصيدة‪ ،‬وهو نفس الرأي‬
      ‫حجته فيها وصدقه‬             ‫والثمين‪ ،‬ويعلق الجاحظ‬        ‫الذي تبناه الجاحظ واعتبر‬
                                   ‫على ذلك فيقول‪« :‬وكان‬          ‫هذا الصنيع من علامات‬
‫وإخلاصه وسلامة منطقه‪،‬‬            ‫الأصمعي يفضله من أجل‬        ‫التكلف والسخافة في الفرس‪،‬‬
‫وهي مقدمة تناقض الكتاب‬            ‫ذلك»‪ ،‬والأصمعي نفسه‬          ‫وبالتالي كان من اللازم أن‬
                                   ‫كان معجبًا بشعر بشار‬         ‫يكون العربي ابن لحظته‪،‬‬
  ‫كله‪ ،‬الذي كان يؤمن فيه‬          ‫لأنه مطبوع ‪-‬على طريقة‬       ‫يأتيه الخاطر فيجري لسانه‬
  ‫بعكس ما قاله في المقدمة‬           ‫فهم الأصمعي للشاعر‬        ‫في نفس الثانية‪ ،‬ولأن الكلام‬
‫تما ًما‪ .‬لعل مثل هذه المقدمة‬      ‫المطبوع‪ ،-‬وهي الطريقة‬          ‫ابن لحظته فمن الطبيعي‬
 ‫تصلح شاه ًدا سري ًعا على‬          ‫التي تتضح من وصف‬             ‫أن تتفاوت حظوظ الأبيات‬
‫ازدواجية ابن قتيبة النقدية‬        ‫بشار لشعره‪ ،‬وقد سأله‬            ‫من الجودة وأن يقع في‬
   ‫والبلاغية‪ ،‬ومنها موقفه‬        ‫سائل عن تفاوت المستوى‬        ‫بعض الأبيات خلل لفظي أو‬
                                                                 ‫عروضي أو معنوي‪ ،‬وفي‬
     ‫من «الطبع والصنعة»‬              ‫في شعره فقال‪« :‬إنما‬       ‫هذه الحال فإن وجود هذه‬
  ‫فله آراء تساير ما سبق‪،‬‬          ‫الشاعر المطبوع كالبحر‪،‬‬     ‫الهنات في القصيدة مما يرفع‬
 ‫وآراء أخرى ضد ما سبق‬             ‫مرة يقذف صدفة ومرة‬          ‫من شأنها ويعلي من قيمتها‬
   ‫تما ًما‪ ،‬ويبدو ابن قتيبة‬     ‫يقذف جيفة»‪ .‬ومن المدهش‬        ‫لأنه يدل على أنه شعر الطبع‬
‫فيها مدر ًكا ‪-‬بحق‪ -‬للطبع‬        ‫أن وجود الجيفة في الشعر‬           ‫الذي جال به الخاطر في‬
                                ‫مما يرفع من قيمة الشاعر‬        ‫ذهن الشاعر فانطلق لسانه‬
    ‫والصنعة‪ ،‬وهذه الآراء‬                                       ‫من فوره بما ع ّن له‪ ،‬فخرج‬
  ‫سوف تزدهر منذ القرن‬                ‫لأنه «مطبوع»‪ ،‬وكلما‬       ‫«على هيئته» دون تنقيح أو‬
                               ‫تفاوت المستوى الفني لشعر‬        ‫تهذيب‪ ،‬وستجد الأصمعي‬
    ‫الرابع الهجري وتعمل‬
 ‫على تغييب التصور القديم‬           ‫الشاعر دل ذلك على أنه‬
‫الذي قدمه الأصمعي وأبو‬         ‫مطبوع لا يعاود النظر فيما‬
 ‫عمرو بن العلاء والجاحظ‬         ‫يقول‪ ،‬بل يقذفه لسانه من‬
                               ‫فوره‪ ،‬وفي تفضيل الفرزدق‬
     ‫وابن جني ومجموعة‬            ‫لس ّر تميز النابغة الجعدي‬
    ‫من علماء اللغة والنحو‬
   216   217   218   219   220   221   222   223   224   225   226