Page 42 - ميريت الثقافة رقم (33)- سبتمبر 2021
P. 42

‫العـدد ‪33‬‬   ‫‪40‬‬

                                                          ‫سبتمبر ‪٢٠٢1‬‬

‫والأساليب السليمة‪ ،‬وجنو ًحا في كثير من الأحيان إلى‬        ‫بضرورة تعدد اللغات والملفوظات وتداخل الخطابات‪،‬‬
 ‫لغة أقرب ما تكون إلى الدارجة‪ ،‬ولا شك أن التداخل‬            ‫وتكشف لنا عالمًا أكثر اتسا ًعا وتعقي ًدا ليس بإمكان‬
                                                             ‫لغة وحيدة أن تعكسه‪ .‬الوعي الكاليلي‪ ،‬التنسيبي‪،‬‬
     ‫بين الإنتاج الروائي من جهة‪ ،‬والمجال الصحفي‬                ‫هو الذي تطورت بذوره نتيجة لأحداث تاريخية‬
   ‫من جهة ثانية‪ ،‬ومحفل التلقي المتمثل في قراء تلك‬            ‫ومعرفية‪ ،‬حطمت المركزية اللغوية والأيديولوجية‬
  ‫الصحافة ثالثًا‪ ،‬ساهم في جعل اللغة تتخذ التبسيط‬                 ‫التي سادت في العصور الوسطى (الكشوفات‬
                                                               ‫الجغرافية والرياضية والفلكية‪ ،‬عصر النهضة‪،‬‬
                 ‫والتدريج مطية لنقل خطاباتها»(‪.)4‬‬            ‫الثورة البروتستانتية‪ ،‬الثورة الصناعية‪ ..‬إلخ(«(‪،)1‬‬
      ‫كل هذه العوامل وغيرها أسهمت في نقل اللغة‬              ‫ثم جاء بعد ذلك الروائي دوستويفكسي في العصر‬
  ‫العربية من ذائقة الشعر إلى ذائقة الرواية‪ ،‬وفي نقل‬         ‫الحديث فأوجد نو ًعا من الروايات يتسم بالتعددية‬
    ‫الرواية من الأحادية اللغوية التي توحي بمطلقية‬             ‫الصوتية واللغوية وبالطابع الحواري‪ ،‬وذلك على‬
     ‫القيم والآراء والمواقف‪ ،‬إلى تعددية اللغات خلال‬          ‫خلاف «عالم تولستوي الذي هو عالم مونولوجي‬
     ‫البدايات الأولى للجنس الروائي‪ ،‬وفي هذا الإطار‬         ‫يتوفر على وحدة متراصة‪ ..‬في هذا العالم ليس هناك‬
  ‫يقول إحسان عبد القدوس في رده على بعض النقاد‬               ‫صوت ثان إلى جانب صوت المؤلف‪ ،‬ومن ثم فليس‬
  ‫العرب‪« :‬أنتم لا تدركون العذاب الذي تحملناه لكي‬              ‫هناك مشكلة خاصة بتوحيد الأصوات أو وضع‬
‫نكتب الرواية‪ ،‬كيف نحيل هذه اللغة المطلسمة المجمدة‬                             ‫خاص بوجهة نظر المؤلف»(‪.)2‬‬
   ‫بلاغيًّا‪ ،‬الساحرة‪ ،‬إلى تذويب حقيقي يقرب بها من‬            ‫يقول ميخائيل باختين‪« :‬دوستويفسكي هو خالق‬
                                                             ‫الرواية المتعددة الأصوات ‪ ،Polyphone‬لقد أوجد‬
                                  ‫لغة الحياة»(‪.)5‬‬          ‫صن ًفا روائيًّا جدي ًدا بصورة جوهرية‪ .‬ولهذا السبب‬
  ‫ومنذ السبعينيات «ستعرف الرواية المتعددة اللغات‬            ‫بالذات فإن أعماله الإبداعية لا يمكن حشرها داخل‬
 ‫نم ًّوا في الكم وتن ُّو ًعا في الكيف‪ ،‬يتجلى ذلك من خلال‬   ‫أطر محددة من أي نوع‪ ،‬وهي لا تذعن لأي من تلك‬
   ‫ذكر أسماء روائيين يعتبرون في طليعة من أنتجوا‬
  ‫نصو ًصا تتوفر على خصائص التعدد اللغوي وهم‪:‬‬              ‫القوالب الأدبية التي وجدت عبر التاريخ والتي اعتدنا‬
 ‫الطيب صالح‪ ،‬إميل حبيبي‪ ،‬غائب طعمة فرمان‪ ،‬عبد‬                ‫تطبيقها على مختلف ظواهر الرواية الأوروبية»(‪.)3‬‬
                                                            ‫والشيء نفسه نجده في الوطن العربي‪ ،‬فقد هيمنت‬
     ‫الرحمان منيف‪ ،‬سليم بركات‪ ،‬حيدر حيدر‪ ،‬عبد‬                ‫الأحادية اللغوية على النصوص النثرية إلى حدود‬
   ‫الله العروي‪ ..‬ففي هذه النصوص الروائية لا يثير‬            ‫نهاية القرن التاسع عشر‪ ،‬حيث نجد في هذه الفترة‬
   ‫الانتباه فقط تنوع التيمات والأشكال‪ ،‬ولكن أي ًضا‬            ‫تح ُّو ًل نوعيًّا على مستوى عدة بنيات في مقدمتها‬
                                                                      ‫البنية اللغوية‪ ،‬إذ «يلاحظ المرء أن اللغة‬
     ‫وبالأساس التعدد اللغوي المولِّد لتخييل مختلف‬                     ‫العربية‪ ،‬منذ أواخر القرن التاسع عشر‪،‬‬
   ‫يتجاوز الواقعية المتوهمة ليعوضها بالبناء المر ّكب‬                  ‫في سياق تطور الكتابة النثرية‪ ،‬أصبحت‬
    ‫المطبوع بالتعدد والتداخل والتَّهجين والتشخيص‬                           ‫تضم أجنا ًسا أدبية جديدة كالمقالة‬
  ‫البارودي»(‪ ،)6‬ويرجع محمد برادة‬                                       ‫والقصة والمسرحية والرواية من جهة‪،‬‬
‫هذا التحول إلى عنصرين على الأقل‪:‬‬                                        ‫وانفتحت على معاجم لغوية وأساليب‬
 ‫‪ -1‬الدور الكبير الذي لعبه الخطاب‬                                         ‫تعبيرية عن طريق الاحتكاك بلغات‬
                                                                      ‫أجنبية كالفرنسية والإنجليزية من جهة‬
      ‫النقدي في بلورة أهمية التعدد‬                                        ‫ثانية‪ ،‬كما نجد على مستوى الإبداع‬
  ‫اللغوي والحوارية وتوظيف حوار‬                                           ‫الروائي ميل الروائيين إلى استعمال‬
                                                                           ‫البسيط من المفردات‪ ،‬والسهل من‬
      ‫اللغات في عصر معين وكذلك‬                                          ‫التراكيب‪ ،‬بل إهما ًل للأصول اللغوية‬
      ‫بين عصر وآخر‪ .‬وهذا الطرح‬
    ‫الذي استفاد كثي ًرا من تحليلات‬
     ‫ميخائيل باختين الرائدة في هذا‬
‫المجال‪ ،‬أخرج الإشكالية من مستوى‬
 ‫العامية في الحوار الروائي ليضعها‬
   ‫على مستوى أعمق وأشمل يتصل‬
   37   38   39   40   41   42   43   44   45   46   47