Page 45 - ميريت الثقافة رقم (33)- سبتمبر 2021
P. 45

‫‪43‬‬  ‫إبداع ومبدعون‬

    ‫رؤى نقدية‬

   ‫تعبيرين‪ ،‬فض ًل عن ذلك فإن الصوتين مترابطان‬            ‫ككل أن تقول شيئًا ما‪ ،‬ولهذا فالرواية لا تقول هذا‬
  ‫حوار ًّيا وكأنهما كانا يتحادثان سوي ًة‪ ،‬إن الخطاب‬      ‫الشيء المقصود بواسطة لغة واحدة ولكن بواسطة‬
   ‫الثنائي الصوت هو دائ ًما ذو حوار داخلي‪ ،‬هذا ما‬        ‫صورة تشكيلية لعدد من اللغات ضمن نسق بنائي‬
   ‫نجده في الخطابات الهزلية والساخرة والباروديا‬
‫وفي الخطاب التكسيري للسارد وللشخوص‪ ،‬وأخي ًرا‬                                               ‫متكامل»(‪.)17‬‬
  ‫في خطاب الأجناس المتخللة‪ ،‬فهي جميعها خطابات‬              ‫إن الروائي لا يكتب الرواية إلا من خلال تصور‬
                                                            ‫مسبق يفترض فيه أن الرواية تقوم على حكاية‪،‬‬
     ‫ثنائية الصوت ذات صيغة حوارية داخلية»(‪.)19‬‬            ‫وهذه الحكاية هي ُمعادل حكائي لسؤال تجريدي‬
                           ‫ت‪ -‬الأجناس المتخللة‪:‬‬              ‫لا بد أن يطرحه كل روائي على الواقع والعالم‪،‬‬

   ‫تتخلل الرواية عدة أجناس تعبيرية ُمتاخمة لها أو‬             ‫لأن الروائي لا يكتب الرواية من فراغ‪ ،‬إذ كل‬
    ‫التي تنمو وتتشكل مستقلة عنها‪ ،‬لكنها تدخل في‬          ‫رواية تحمل رؤية خاصة عن العالم تنزع إلى دلالة‬
    ‫تفاعل وحوار معلن أو خفي معها‪ ،‬وتنصهر مع‬             ‫اجتماعية‪ ،‬وهذه الرؤية يحاول الروائي تمريرها من‬
‫طرائق السرد من سرد ووصف وحوار‪ ،‬وتلتحم مع‬
‫الشخوص والفضاءات‪ ،‬بيد أن هذه الأجناس الدخيلة‬                         ‫خلال عدة أصوات ولغات في الرواية‪.‬‬
                                                           ‫لذلك فباختين يجعل الإنسان المتكلم وكلامه على‬
      ‫بالإضافة إلى تعددها وتفاعلها‪ ،‬فإن لها أهدا ًفا‬      ‫أنه الخاصية الجوهرية للأسلوبية الروائية‪ ،‬وهذا‬
   ‫تقصدها بحيث تعمد إلى التعبير عن نوايا الكاتب‪،‬‬       ‫المتكلم هو دائ ًما وبدرجات مختلفة ُمنتج أيديولوجيا‪،‬‬
                                                          ‫وكلمته هي دائ ًما عينة أيديولوجية‪ ،‬كما أن خطابه‬
     ‫ونقل أيديولوجيته ورؤيته للعالم بطريقة فنية‪.‬‬       ‫ُمشخص بطريقة فنية من طرف المؤلف وليس مجرد‬
    ‫يقول ميخائيل باختين‪« :‬إن الأجناس التي تدخل‬          ‫خطاب منقول بطريقة حيادية‪ ،‬إن المتكلم في الرواية‬
   ‫الرواية يمكن أن تكون ذات قصدية مباشرة‪ ،‬كما‬             ‫ليس هو الكاتب فحسب في ‪-‬نظر باختين‪ -‬بل هو‬
                                                          ‫كل شخصية لها صوتها داخل الرواية‪ ،‬إذ يصبح‬
      ‫يمكن أن تكون موضوعية شيئية بالكامل‪ ،‬أي‬           ‫الكاتب نفسه مجرد صوت من بين أصوات أخرى في‬
    ‫محرومة حرما ًنا تا ًّما من مقاصد المؤلف (أي أن‬      ‫الرواية (صوت الشخوص‪ ،‬صوت الكاتب المفترض‪،‬‬
                                                       ‫صوت البطل‪ ،‬الأجناس المتخللة‪ )..‬والرواية لا تتحدث‬
      ‫الكلمة لا تقول هذه الأجناس بل تعرضها فقط‬
       ‫كأشياء)‪ ،‬إلا أن هذه الأجناس تعكس في أكثر‬              ‫بأسلوب واحد مباشر‪ ،‬ولكنها تتحدث بصورة‬
                                                       ‫مشكلة من أساليب مختلفة‪ ،‬تشخص مواقف متباينة‪،‬‬
         ‫الأحيان مقاصد المؤلف بقدر أو بآخر»(‪.)20‬‬
‫ويستطرد «يمكن للأجناس المتخللة أن تكون مباشرة‬            ‫كما أنها ‪-‬في الواقع‪ -‬لا ُتكتب بواسطة اللغة‪ ،‬وإنما‬
                                                       ‫بواسطة الدلالات والتصورات التي تحملها جملة من‬
    ‫قصدية أو موضوعة كلية‪ ،‬أي متجردة تما ًما من‬
    ‫نوايا الكاتب‪ ،‬فلا تكون في صيغة «قول» بل فقط‬                                              ‫اللغات(‪.)18‬‬
 ‫«مظهرة» كأنها شيء‪ ،‬بواسطة الخطاب‪ .‬لكن‪ ،‬غالبًا‬               ‫وهذا التعدد اللغوي المشخص لتنوع الملفوظات‬
    ‫ما تعمد تلك الأجناس بدرجات مختلفة إلى كسر‬            ‫والمشخص لخطاب الآخر‪ ،‬يفيد في امتصاص تعبير‬
   ‫نوايا الكاتب و َح ْر ِف َها‪ ،‬وبعض عناصرها قد تبتعد‬       ‫الكاتب عن نواياه وجعله تعبي ًرا غير مباشر كما‬
   ‫بكيفية مختلفة‪ ،‬عن المستوى الدلالي الأخير للعمل‬       ‫ُيحول خطاب الرواية إلى خطاب ثنائي الصوت‪ ،‬وفي‬
                                                          ‫هذا الصدد‪« ،‬إن التعدد اللغوي المدرج في الرواية‪،‬‬
                                     ‫الأدبي»(‪.)21‬‬      ‫هو خطاب الآخرين داخل لغة الآخرين‪ ،‬وهو يفيد في‬
   ‫استنا ًدا إلى هاتين القولتين يتبين لنا أن الأجناس‬    ‫تكسير التعبير عن نوايا الكاتب‪ ،‬وهذا الخطاب يقدم‬
  ‫الدخيلة في الرواية‪ ،‬تكون إما « ُمظهرة» أي قصدية‬        ‫التفرد في أن يكون ثنائي الصوت‪ ،‬إنه يخدم في آ ٍن‬
  ‫تعبر مباشرة عن نوايا الكاتب ومقاصده‪ ،‬أو تكون‬           ‫متكلمين‪ ،‬ويعبر عن نيتين مختلفتين‪ :‬نية مباشرة‪،‬‬
    ‫«متجردة» تعمل على كسر نوايا الكاتب وحرفها‪،‬‬          ‫هي نية الشخصية التي تتكلم‪ ،‬ونية ُمك َّسرة هي نية‬
                                                         ‫الكاتب‪ ،‬مثل هذا الخطاب يشتمل على معنيين وعلى‬
      ‫ويبقى كاتب الرواية معار ًضا لدلالتها‪ ،‬فتكون‬
   ‫محرومة حرما ًنا تا ًّما من مقاصد المؤلف ومآربه‪.‬‬
 ‫إن أهم عمل يقوم به الكاتب أمام الأجناس المتخللة‪،‬‬

     ‫يكمن في نقل تلك الأجناس من نماذجها الأولية‬
   40   41   42   43   44   45   46   47   48   49   50