Page 144 - ميريت الثقافية العدد 24 ديسمبر 2020
P. 144

‫العـدد ‪24‬‬                              ‫‪142‬‬

                                 ‫ديسمبر ‪٢٠٢٠‬‬                        ‫أ ِّني رأيتها تضحك أو حتى‬
                                                                    ‫تبتس ُم؛ مع أنها لطيفة‪ ،‬ولم‬
                      ‫هذه‪.‬‬       ‫الزرقاء‪ ،‬الصفراء ظلت تقترب‬       ‫تكن تشتكي أب ًدا لكن بإمكانها‬
     ‫وجب الكثير‪ ،‬الكثير من‬         ‫منها شيئًا فشيئًا متنقلة في‬       ‫ودون أن ترفع صوتها أن‬
      ‫الوقت لكي تكون كائنًا‬       ‫شكل أزواج وبنفس المسافة‪.‬‬
‫انسانيًّا تتخلص من انطباعات‬        ‫لم يعد لديها أدني شك أنها‬                 ‫ُتظهر أنها قاسية‪.‬‬
     ‫الرعب ثم تتقبلها مجد ًدا‬                                      ‫حين ترحل في إحدى بعثاتها‬
 ‫ليصير بالإمكان الحياة مرة‬       ‫محاصرة بالذئاب‪ .‬لقد سمعنا‬
    ‫أخرى‪ .‬فهل هو عنف تلك‬         ‫في أوفا خلال الحرب حكايات‬          ‫ال َّشاقة من أجل البحث عما‬
  ‫المواجهات الأولى مع الحياة‬                                        ‫نقتاته؛ نتسلَّق أنا وأخواتي‬
    ‫ما يمنعني اليوم من الميل‬         ‫عن ذئاب جائعة مدفوعة‬            ‫السرير لننام‪ ،‬لقد بعنا كل‬
    ‫نحو أدب الخيال؛ رغم ما‬         ‫بحاجتها إلى الغذاء‪ ،‬وانتهى‬      ‫ما نملكه وبادلنا الكل مقابل‬
‫أح ُّسه من علاقات أسرية مع‬
                                       ‫الأمر بها أحيا ًنا للقيام‬      ‫شيء نأكله‪ ..‬ملابس أبي‬
              ‫بعض الكتَّاب‪.‬‬       ‫بغزوات داخل القرى‪ .‬زادت‬             ‫المدنية‪ ،‬أحزمته‪ ،‬جزماته‪،‬‬
 ‫تبدو لي الكلمات أشياء ميِّتة‪،‬‬   ‫أمي من التفافها بالغطاء الذي‬     ‫وكنا نمزح‪« :‬الجنازة الرمادية‬
                                 ‫تحمله لكنها سرعان ما عدلت‬             ‫لأبي لطيفة ج ًّدا» أو»هذا‬
    ‫لا معنى لها الآن بالنسبة‬                                           ‫الحزام له مذاق سكري‪.‬‬
   ‫لي وليس لها تأثير كما هو‬         ‫عن ذلك‪ ،‬سحبته واشعلت‬           ‫أليس كذلك؟»‪ .‬حصلنا مقابل‬
                                  ‫فيه النار‪ .‬طب ًعا؛ ما إن لمحت‬        ‫أحد أشيائه ‪-‬لا أذكر ما‬
     ‫الشأن بالمسرح المألوف‬                                         ‫هو‪ -‬على دقيق أسود يصلح‬
 ‫عندنا‪ .‬بينما الموسيقا أح ُّسها‬     ‫الذئاب النيران حتي لاذت‬          ‫لصنع كراب لعدة أسابيع‪،‬‬
                                    ‫بالفرار‪ .‬لكم هو غريب أن‬        ‫مجرد تذ ُّكر ذلك الدقيق الآن‬
     ‫بشكل انفعالي منذ عامي‬          ‫تسمع أن تلك المسكينة قد‬       ‫يصيبني بالغثيان‪ ..‬كان وقتها‬
     ‫الثاني‪ .‬أتفاعل مع بعض‬         ‫حدث لها ذلك ومنذ أقل من‬
  ‫الأغاني أكثر من تفاعلي مع‬       ‫عشرين سنة‪ .‬بوصولها عند‬                      ‫هدية من الآلهة‪.‬‬
     ‫مقطوعات ميلردية‪ .‬كان‬        ‫أقاربنا حملت البطاطا وعادت‬              ‫ما أقسى تلك الأوقات‬
     ‫المذيع هو المورد الوحيد‬        ‫أدراجها‪ .‬ولم تح ِك لنا تلك‬     ‫العصيبة؛ أتذكر أنه ذات ليلة‬
     ‫لسماع الموسيقا‪ .‬كنا قد‬        ‫الحادثه إلا بعد زمن طويل‪.‬‬        ‫وبسبب هذه البطاطا اللعينة‬
  ‫اشتريناه من موسكو وظل‬             ‫كان الموت يترصد بنا عند‬             ‫كدت أفقد أمي‪ .‬خرجت‬
     ‫يتنقل معنا من مكان إلى‬                                           ‫وحدها بدون رفقة روزا‬
     ‫مكان حيث حللنا‪ .‬أجلس‬             ‫أول الطريق‪ ،‬ورغم ذلك‬        ‫لزيارة أحد أقاربنا المرموقين‬
                                 ‫واصلنا باعتماد قوى جديدة‪،‬‬        ‫في قرية تبعد عن أوفا ثلاثين‬
       ‫حذوه عاق ًل ج ًّدا لعدة‬   ‫بإيجاد حلول مخالفة لمواجهة‬       ‫كيلومت ًرا‪ ،‬طب ًعا تقطع المسافة‬
   ‫ساعات وأستمع للموسيقا‬                                               ‫علي القدمين ذها ًبا وإيا ًبا‬
   ‫مهما كانت‪ .‬كل ما أتذكره‬           ‫ما يعترضنا من مصاعب‬             ‫في ع ِّز الشتاء‪ .‬انطلقت منذ‬
  ‫أني كنت عبر هذه الموسيقا‬            ‫عدة‪ .‬غيرنا كان سيلقى‬         ‫الصباح وكان عليها أن تعبر‬
   ‫أفلت من الغرفة‪ .‬أبتعد عن‬                                          ‫إحدى الغابات وقد داهمها‬
   ‫الجميع وأهرب من عزلتي‬         ‫حتفه‪ ..‬لا يمكنني إلا أن أكون‬        ‫الليل‪ .‬مذعورة لمحت دوائر‬
‫أي ًضا‪ .‬اعتبرت الموسيقا ومنذ‬                    ‫فخو ًرا بهذا‪.‬‬        ‫صفراء مضيئة تحاصرها‪.‬‬
  ‫صغري صديقتي الوحيدة‪،‬‬                                                ‫لم تعرها اهتما ًما معتقدة‬
   ‫وسيلة لبلوغ السعادة‪ .‬لم‬          ‫هذا ما كانت عليه سنواتي‬       ‫إنها حباحب أو شيء من هذا‬
‫أق ِّدر وقتها أن انفعالات كهذه‬      ‫الأولي‪ .‬لقد تربيت في عالم‬         ‫القبيل‪ .‬لكن تلك الشعلات‬
‫تعني ميلاد حب كبير ملأ عليَّ‬
                                                     ‫القيامة‪.‬‬
     ‫حياتي‪ :‬ألا وهو الرقص‬             ‫كانت طفولتي مرسومة‬
                                 ‫بالجوع‪ ،‬الخوف والموت‪ .‬لأن‬
                                     ‫أغلب العائلات من حولنا‬
                                 ‫فقدت أحد أفرادها‪ ،‬ابنًا‪ ،‬أ ًخا‪،‬‬
                                     ‫زو ًجا مات في الحرب‪ ..‬لا‬
                                    ‫أعرف أي قيمة أخرى غير‬
   139   140   141   142   143   144   145   146   147   148   149