Page 189 - ميريت الثقافية العدد 24 ديسمبر 2020
P. 189

‫الملف الثقـافي ‪1 8 7‬‬

 ‫ويضع هذا في مقارنة مع‬         ‫العيش‪ ،‬ومورد رزق‪ ،‬كما‬              ‫ففي زمن الحديث عن‬
    ‫واقع مغاير تما ًما لهذا‬       ‫قال ابن أيدمر‪« :‬وكان‬      ‫مواقعة الغلمان علانية بهذه‬
    ‫«الماضي المجيد»‪ ،‬فإذا‬         ‫على ما يدعيه من العنة‬
                                                                 ‫الصراحة (أو الوقاحة)‬
  ‫به واقع بائس ينبني عل‬        ‫متهما بشدة الغلمة وقوة‬         ‫وكأنه ميزة وافتخار‪ ،‬كأن‬
‫عكس ما قدمه عن الماضي‪،‬‬          ‫الباه‪ ،‬حتى قيل إنه أحبل‬        ‫يقف أبو نواس في محفل‬
                             ‫جارية في دار السلطان بعد‬          ‫ينشد أبا عبيدة معمر بن‬
  ‫ومن خلال هذه المراوحة‬         ‫تسييره لهذه الأشعار»‪،‬‬         ‫المثنى‪ ،‬عالم اللغة المعروف‬
  ‫والمزاوجة بين صورتين‬         ‫وفي ديوان أبي حكيمة ما‬         ‫والإخباري‪ ،‬صاحب شرح‬
                               ‫يؤكد سوء ظن ابن أيدمر‬        ‫النقائض المبهر‪ ،‬فيمدحه على‬
    ‫إحداهما تعكس الوجه‬
    ‫المجيد والأخرى الوجه‬         ‫فيه‪ ،‬ففي نصه الجميل‬                  ‫رؤوس الأشهاد‪:‬‬
  ‫الأضعف يتم بناء المعنى‬                      ‫والطويل‪:‬‬      ‫صلى الإله على لوط وشيعته‬
    ‫الشعري الذي لا يخلو‬
 ‫من الفكاهة وروح الظرف‬           ‫يكفن الناس موتاهم إذ‬            ‫أبا عبيدة قل بالله آمينا‬
  ‫والمبالغة‪ ،‬ويتم تقديم كل‬                       ‫هلكوا‬      ‫لأنت عندي بلا شك زعيمهم‬
‫ذلك في قالب لغوي رصين‬
 ‫ج ًّدا‪ ،‬وصور شعرية غاية‬     ‫وبين رجليّ مي ٌت ما له كفن‬        ‫منذ احتلمت ومذ جاوزت‬
‫في الجمال‪ ،‬وسلامة نحوية‬      ‫أبيات يطلب فيها أبو حكيمة‬                          ‫ستينا‬

      ‫وأسلوبية تجعل منه‬           ‫من الخليفة المأمون أن‬       ‫ويبتسم أبو عبيدة ويروي‬
 ‫«شع ًرا» حقيقيًّا‪ .‬وسأنقل‬     ‫يمنحه جارية لعلها تحيي‬          ‫شعر أبي نواس ولا يجد‬
                              ‫هذا الميت الذي ستدب فيه‬          ‫غضاضة في ذلك‪ ،‬في هذا‬
     ‫نموذجين للتدليل على‬                                       ‫الزمن فإن القول بأن أبا‬
           ‫مستواه الفني‪:‬‬                ‫الحياة إذا رآها‪:‬‬     ‫حكيمة أراد أن ينفي التهمة‬
                                 ‫هذا الخليفة‪ ،‬فاستوهبه‬
   ‫أبكي على لهوي ولذاتي‬                                          ‫عن نفسه فرثى متاعه‪،‬‬
    ‫بعبرة تشفي حراراتي‬                          ‫جارية‬       ‫يصبح مثل هذا القول مريبًا‪.‬‬
     ‫أبكى على أير ضعيف‬        ‫حوراء تضحك في أعطافها‬         ‫أما «الخبثاء» فكانوا يعلمون‬
                                                            ‫طوية أبي حكيمة وأن (رثاء‬
                   ‫القوى‬                         ‫الفتن‬
 ‫يخونني في وقت حاجاتي‬           ‫لعل أيرك يحيا إن ألم به‬        ‫متاعه) حيلة فنية لكسب‬

         ‫أصبح ر ّث الحبل‬          ‫وج ٌه ملي ٌح وخلق ناعم‬
                ‫مسترخيًا‬                         ‫حسن‬

     ‫صريع أسقام وآفات‬        ‫فامنن عليَّ أمير المؤمنين بها‬
  ‫ينام على ما يستلذ الفتى‬         ‫فعندك الخير والنعماء‬
   ‫ونومه إحدى المصيبات‬                           ‫والمنن‬
 ‫يبيت في الصيف أخا ِق ّر ٍة‬      ‫يقوم ديوان أبي حكيمة‬
 ‫مثل مبيت ال ّص ِرد الشاتي‬        ‫على فكرة واحدة يبني‬
‫أوهى قواه ما يميت القوى‬
                               ‫عليها كل نصوصه‪ ،‬ومن‬
      ‫يو ٌم تولى وغ ٌد ياتي‬      ‫خلال هذا الإجراء يحق‬
 ‫كأنه لم َي ْغ َش فيما مضى‬       ‫له أن يتباهى ج ًّدا بقوة‬

      ‫مواطنا غير ذميمات‬       ‫متاعه وشراهة الباه عنده‪،‬‬
     ‫كن ُت إذا قام أباهي به‬      ‫ولكن هذه المباهاة وهذا‬
 ‫َم ْن رام فخري ومباهاتي‬
    ‫كأن دوني منه مرزبة‬       ‫الفخر يتم تقديمه في صيغة‬
                               ‫الماضي‪ ،‬هذا هو «الماضي‬
                              ‫المجيد» الذي فقده الشاعر‪،‬‬
   184   185   186   187   188   189   190   191   192   193   194