Page 221 - ميريت الثقافية العدد 24 ديسمبر 2020
P. 221

‫ما يضاعف المفارقة أ َّن الوسائط‬                                                      ‫أتي َح لكل فرد هوية جديدة‪،‬‬
                                                                                        ‫مش َّكلة ِمن ِجماع وتوالي صوره‬
           ‫الحديثة ح َّولت شكل التواصل‬                                                  ‫ومنشوراته والمعلومات المرافقة‪،‬‬
      ‫الإنساني‪َ ،‬فصاَر أقرب إلى كبسولة‬
      ‫سريعة وملهوفة غال ًبا ما تتج َّسد‪،‬‬                                                    ‫إلى آخره‪ ،‬ووف ًقا لطبيعة كل‬
  ‫ُتر َسل و ُتسَتق َبل‪ ،‬في شكل مرئي‪ ،‬في‬                                                    ‫موقع‪ .‬هكذا وج َد كل ُمشا ِرك‬
 ‫أحيان َنص صغير وفي معظم الأحيان‬                                                       ‫نف َسه‪ ،‬أو بالأحرى صورته المعبَّر‬
                                                                                            ‫عنها على صفحات التواصل‬
     ‫صورة‪ .‬وهكذا أتي َح لكل فرد هوية‬                                                   ‫الاجتماعي‪ ،‬متا ًحا لجميع الآخرين‬
‫جديدة‪ ،‬مش َّكلة ِمن ِجماع وتوالي صوره‬                                                   ‫المشاركين‪ ،‬موضو ًعا تحت أعين‬
                                                                                       ‫الرصد والتحليل والنقد على مدار‬
 ‫ومنشوراته والمعلومات المرافقة‪ ،‬إلى‬                                                     ‫الأربع وعشرين ساعة‪ .‬غير أننا‬
         ‫آخره‪ ،‬ووف ًقا لطبيعة كل موقع‬                                                  ‫لا نستسلم لذلك التسطيح بطبيعة‬
                                                                                          ‫الحال‪ ،‬ففي نفس اللحظة التي‬
                        ‫وزائ ًفا‪.‬‬             ‫هو ما يجعل كل إنسان جدي ًرا‬              ‫نتح َّول فيها إلى صو ٍر (مس َّطحة)‬
    ‫وهكذا‪ ،‬حتَّى يأخذك الآخرون‬             ‫بأن يكون محبو ًبا ومرغو ًبا وبأن‬             ‫نجته ُد باستماتة في إضفاء أبعاد‬
‫َمأخذ الجد (هكذا تردد الأسطورة‬             ‫يشغل عن استحقاق حي ًزا ُمعتب ًرا‬
‫القديمة) لا ب َّد أ َّل تبدو لهم خفي ًفا‪،‬‬                                                      ‫(عميقة) على تلك الصور‪.‬‬
  ‫ضي ًفا عاب ًرا على العا َل‪ ،‬أ َّل تبدو‬     ‫في فضاء الآخر‪ ،‬في عقله وقلبه‪،‬‬               ‫ما لا يخطر على بال أي إنسان‪،‬‬
  ‫مثل ُنكتة أو قفشة ُربما ُتض ِحك‬
 ‫لكنها لا تمكث في الأرض لأنها لا‬           ‫في أفكار نهاره وأحلام ليله‪ .‬فكأ َّن‬               ‫ولو للحظة عابرة‪ ،‬ولو على‬
‫تنفع الناس‪ .‬لكي يأخذك الآخرون‬                  ‫ك ًّل منَّا يطمح لأن يكون عند‬               ‫سبيل المزاح‪ ،‬أ َّنه قد يكون في‬
  ‫مأخذ الجد لا ب َّد أن تحفر عمي ًقا‬                                                       ‫حقيقة الأمر بلا أي ُعمق‪ ،‬أ َّنه‬
    ‫بما يكفي تحت سطح المظاهر‬                ‫الآ َخر «الرجل الغامض بسلامته‬                ‫هو نفسه ليس أكثر ِمن صورة‬
  ‫والأحداث والأخبار المُع َلنة‪ ،‬حتَّى‬                   ‫ومتخفي بن َّضارة»‪.‬‬              ‫ثنائية ال ُبعد‪ .‬لن يعترف أح ٌد بهذا‬
    ‫لو أ َّدى ب َك هذا إلى الإفراط في‬                                                    ‫ولو بينه وبين نفسه‪ ،‬لكن لماذا؟‬
    ‫التحليل لدرجة خنق كل فكرة‬              ‫ث َّمة استثناءات بطبيعة الحال‪ ،‬تلك‬             ‫أين الفضيحة في هذا بالضبط؟‬
                                            ‫المقامات العالية والأحوال النادرة‬             ‫أين ال َعار في َعدم امتلاك أبعاد‬
      ‫نيرة ولطيفة‪ ،‬أو إلى الإيمان‬                                                           ‫لوأمن اسلتعومياقت‪-‬وعلخىلامفاهي؟ب ُدربوماِمن‬
    ‫بنظرية المؤامرة وأ َّن وراء كل‬             ‫التي يجري فيها التعايش مع‬                 ‫موضعنا هنا ُقر َب ال َسطح‪ -‬هو‬
    ‫هذا ث َّمة لعبة ذات أبعاد كونية‬                                                     ‫ما يمنح ذواتنا غموضها الفريد‪،‬‬
   ‫ُتدار من ِقبل أطراف ُقوى عليا‬             ‫السذاجة والضحالة والاعتراف‬                ‫خصوصيتها وجلالها‪ ،‬وجدارتها‬
 ‫تت َّحكم في كل شيء ِمن مخابئها‪.‬‬                                                       ‫بأن تكون موضو ًعا ُمثي ًرا للنميمة‬
 ‫والحقيقة أ َّنه لا نهاية لاحتمالات‬          ‫بهما‪ ،‬بلا تمجيد أو خجل‪ .‬وتلك‬                   ‫والثرثرة‪ ،‬موضو ًعا َشي ًقا في‬
  ‫ُلعبة التع ُّمق والتعميق هذه‪ ،‬وقد‬                                                     ‫الأدب والفن وعلى أرائك التحليل‬
‫تنتهي في بعض أروقة مستشفيات‬                  ‫قدرة خاصة لدى فئة محدودة‪،‬‬                     ‫النفسي وأمام أقفاص الاتهام‬
                                            ‫فئة مبا َركة ِمن ال َخلق‪ ،‬تعيش في‬              ‫وعلى مقاعد الاعتراف‪ .‬ال ُعمق‬
               ‫الأمراض العقلية‪.‬‬            ‫نعيم التجاهل والغفلة والتغاضي‪،‬‬                  ‫منشود لا لذاته‪ ،‬لكن لأنه هو‬
  ‫تزدا ُد المعركة شراس ًة في مجال‬                                                           ‫ما يمنحنا حكاية ذات معنى‪،‬‬
                                                ‫ولا ب َّد أنه سيكون إحسا ًسا‬            ‫وال َمعنى ِمن أعز وأقدم الأساطير‬
                                               ‫بدي ًعا لمن اختبره ح ًّقا‪ .‬غي َر أ َّن‬     ‫على قلب الإنسانية‪ ،‬ولأنه ربما‬
                                            ‫تلك النعمة في طريقها للانقراض‬
                                              ‫على ما يبدو‪ ،‬ربما بفعل تو ُّغل‬

                                               ‫واستشراء الرغبة المجنونة في‬

                                             ‫التف ُّرد والتم ُّيز‪ ،‬أو على الأقل في‬
                                           ‫امتلاك عم ٍق ما‪ ،‬مهما كان صور ًّيا‬
   216   217   218   219   220   221   222   223   224   225   226