Page 28 - ميريت الثقافية العدد 24 ديسمبر 2020
P. 28

‫العـدد ‪24‬‬   ‫‪26‬‬

                                                     ‫ديسمبر ‪٢٠٢٠‬‬

  ‫القهر ما يعرف بصراع الطبقات‪ ،‬وقدرة الإنسان‬            ‫المعيش‪ ،‬مستن ًدا في الوقت ذاته إلى أساس فكري‬
    ‫‪-‬عبر الجدل‪ -‬على تذويب الطبقات سيؤدي إلى‬               ‫أو بناء فلسفي واضح يعينه على إدراك واقعه‬
  ‫إحساس الإنسان أنه يمتلك حريته‪ .‬والحرية هي‬
  ‫طريق التقدم‪ ،‬بالمعنى الذي يجعله يؤسس كيفية‬          ‫وتفسيره‪ .‬ويتكون هذا الأساس غالبًا من صيغ أو‬
                                                      ‫أبنية تتسم بالثبات‪ ،‬وهذه سمة أولى‪ .‬ويترتب على‬
‫جديدة لواقع جديد‪ .‬وقد يتبادر إلى الذهن ما حدود‬       ‫وجود هذه الصيغ‪ /‬الأبنية قابليتها للتفسير‪ ،‬وهذه‬
‫هذا التقدم هل هي آفاق مستقبلية حالمة أم خطوات‬
                                                                          ‫سمة ثانية لوصف المشاريع‪.‬‬
            ‫محدودة إلى الأمام في اتجاه الحاضر؟‬         ‫وأزعم أن المشروع الروائي لناصر عراق ‪-‬بشكل‬
   ‫يتحكم في الإجابة عن هذا التساؤل ما يعرف في‬        ‫ما‪ -‬رفع قواعده على أسس البنيوية الماركسية‪ ،‬وفي‬
    ‫الماركسية بالمنظور التفاؤلي؛ لأنهم ينظرون إلى‬      ‫نسختها الفرنسية خاصة‪ ،‬وهي الأسس التي قرأ‬
 ‫المستقبل من هذا المنظور‪ ،‬ويرون أن كل تغيير في‬
    ‫الأدوات وأشكال المعرفة سيؤدي إلى شكل من‬              ‫فيها لويس ألتوسير أفكار ماركس‪ ،‬وطورها في‬
                                                       ‫نسق أو في شكل بنيوي قار‪ .‬ودعم هذه الأسس‪،‬‬
                           ‫أشكال التطور لاح ًقا‪.‬‬     ‫قراءة ومناقشة وممارسة عملية‪ ،‬كل من الفيلسوف‬
    ‫في ضوء ما سبق حددنا ثنائية الحرية والتقدم‬
  ‫مدخ ًل لقراءة نص جمالي هو رواية الكومبارس‪.‬‬              ‫الفرنسي بيار ماشير والناقد الإنجليزي تيري‬
  ‫وهو ما سيدفعنا إلى تساؤل جوهري‪ :‬أين موقع‬            ‫إيجلتون‪ .‬وليس من هدف الدراسة استعراض هذه‬

        ‫الفن ماهي ًة ووظيف ًة في هذا البناء الفكري؟‬      ‫الأسس‪ ،‬ولكنها تشير إجما ًل إلى طرح عدد من‬
     ‫لا ينهض عمل الفنان هنا بمعزل عن الأنشطة‬            ‫الأفكار التي لها صلة بالمشروع الروائي‪ ،‬وتمثل‬
‫الأخرى؛ لأنهم يرتبطون جمي ًعا بالواقع الاجتماعي‬
 ‫ومحاولة إدراكه وتفسيره‪ .‬ويمتاز الفن عن سائر‬               ‫في تبلورها للأطر النظرية الماركسية نس ًقا أو‬
      ‫الأنشطة الأخرى بالبعد الذاتي الفردي الذي‬          ‫بناء منطقيًّا‪ .‬وأهمها‪ :‬الحديث عن ثنائية الوعي‪/‬‬
  ‫يصنعه خيال المؤلف لإدراك الواقع‪ .‬ويصنع هذا‬
   ‫الالتقاء بين الفردي والجماعي خصوصية الفن‪.‬‬               ‫اللاوعي بالمفهوم الاجتماعي‪ ،‬فالإنسان يحدد‬
    ‫في هذا السياق لا يصح أن يكون البناء الفكري‬         ‫كينونته بناء على الدور الاجتماعي الذي يقوم به؛‬
‫إطا ًرا للبناء الفني؛ بالمعنى الذي يجعله يحتويه؛ بل‬  ‫أي أن الوظيفة تحدد الماهية‪ ،‬الوجود أو ًل ‪-‬المتحقق‬
‫يعمل الفن بموازاته ويتداخل معه في آن‪ .‬وبقدر ما‬
 ‫يحافظ الفنان على هذا (البعد المتصل) بين الفردي‬                          ‫عن طريق الوعي‪ -‬ثم الماهية‪.‬‬
‫والجماعي يكون للفن دور في إدراك سلامة الواقع‬            ‫ويتصل بهذه الثنائية ثنائية أخرى هي التأسيس‬
  ‫الاجتماعي‪ .‬وتتناقص قيمة الإدراك مع ميل الفن‬         ‫للعلم‪ ،‬ولا يتحقق ذلك إلا إذا كان القانون والتاريخ‬
  ‫إلى أحدهما؛ إذ إن الجنوح إلى الذاتي قد يدفع إلى‬      ‫وحركة التطور تحكم المجتمع (المادية التاريخية‪-‬‬
‫تصور مؤداه أن الفن هو الواقع أو العلم المعبر عنه‬
‫وليس الرامز له‪ .‬والجنوح إلى الجماعي يتحول معه‬                ‫المادية الجدلية)‪ ،‬وهو ما يعد نفيًا لكل دور‬
                                                      ‫إيديولوجي في المجتمع‪ .‬وحركة التطور التي تحكم‬
                 ‫الموقف الجمالي إلى أدلجة فكرية‪.‬‬
  ‫إن الوعي بالبعد المتصل والواقع الاجتماعي عند‬            ‫المجتمع تتم بالتفاعل بين المكونات القائمة على‬
 ‫الفنان هو الذي يمكن من قراءة المشاريع الروائية‬         ‫التعدد والتغير‪ ،‬وهو ما سيدفعهم إلى تبني رؤية‬
    ‫ذات الطوابع الفكرية بوصفها روايات (تمنحنا‬
   ‫إدرا ًكا وليس معرفة‪ ،‬بشكل ما من الداخل وعبر‬            ‫خاصة من الماضي‪ .‬وهو تبني يتضح في ضوء‬
  ‫مسافة داخلية للإيديولوجيا نفسها التي تتداخل‬        ‫تصورهم للجدل‪ ،‬وجدلهم مع الماضي لا يعني نفيه‪،‬‬
                                                     ‫ولكنه يعني التحول إلى كيفية جديدة‪ .‬وهذه الكيفية‬
                    ‫هذه الروايات في نسجها)(‪.)2‬‬
  ‫تفاوتت أهمية اللغة في النظريات الماركسية‪ ،‬فهي‬                  ‫الجديدة تحقق لديهم فكرة الصيرورة‪.‬‬
                                                        ‫وتبدو قيمة الحرية قيمة أساسية في إبراز حركة‬
                                                      ‫التغير التي تكون نقطة انطلاق لكل تطور‪ .‬وتتجلى‬

                                                           ‫صيغة التقدم في ضوء أفكار الوعي والتطور‬
                                                      ‫والجدل‪ ،‬في ضوء ما قدمناه‪ ،‬والتقدم هنا سيرتبط‬

                                                         ‫بكل ما يتصل بالإنسان‪ ،‬وكل نظام اجتماعي لا‬
                                                     ‫يعمل لصالح الإنسان فهو نظام قهري‪ ،‬ومن صور‬
   23   24   25   26   27   28   29   30   31   32   33