Page 212 - ميريت الثقافية- العدد 23 نوفمبر 2020
P. 212

‫العـدد ‪23‬‬                             ‫‪210‬‬

                                     ‫نوفمبر ‪٢٠٢٠‬‬

‫ومبنى مجلس الشعب وغيره من‬                ‫ولا أظن فار ًقا هنا بين «قهوة‬      ‫مكان‪ ،‬المقهى هنا ليس إلا من َطل ٌق‬
                                       ‫الصحافة» لرمز أو معادل وبين‬          ‫تنطلق منه الأحداث‪ ،‬تما ًما كفتيل‬
  ‫الوزارات‪ ،‬لعل هذا الموقع أي ًضا‬      ‫ما ترمز إليه‪ ،‬فالمسألة أجلى من‬
 ‫الذي لا يأتي إلا عن تعمد هو ما‬       ‫احتياجها لشرح أو تفسير‪ ،‬ولعل‬             ‫الانفجار‪ ،‬الذي تتشظى بنزعه‬
                                                                              ‫الشخوص والأزمنة والأحداث‪،‬‬
‫يؤيد أن التحولات التي طرأت على‬           ‫اهتما َم الرواية بالمقهى ومدى‬
   ‫المقهى كانت مجا ٍل عم ٍل لمبضع‬       ‫التحولات التي طرأت عليه‪ ،‬هو‬            ‫فنجد أنفسنا في أماكن أخرى‬
                                       ‫ما أراه الرسال َة الضمني َة الأهم‪،‬‬     ‫تمتد من شمال مصر لجنوبها‬
  ‫التحليل والتشريح الخفي الذي‬        ‫والتي تتواكب مع تحولات رواده‬          ‫ومن شرقها لغربها‪ ،‬فمن القاهرة‬
                                                                              ‫لسوهاج‪ ،‬لأسيوط للمنصورة‪،‬‬
  ‫استخدمه خالد اسماعيل‪ ،‬حتى‬                ‫شخوص العمل ومنعطفات‬             ‫للسويس لطنطا للإسكندرية‪ ،‬وقد‬
  ‫وإن بدا لا يقصد ذلك ومنشغ ًل‬         ‫حيواتهم‪ ،‬بداية من المعلم صالح‬         ‫تتعدى حدود البلاد مسافرة مع‬
                                       ‫مالك المقهى ومديره الأول‪ ،‬ابن‬           ‫الشخوص وحكاياتهم للخليج‬
  ‫عنه بتتبع رواد المقهى الذى آل‬                                                ‫وأوروبا‪ ،‬أما الزمن الذي بدأه‬
‫في نهاية الأحداث لأن يصير مل ًكا‬        ‫البلد الوقور‪ ،‬الحريص على أن‬          ‫في أواخر القرن الفائت‪ ،‬فيتناثر‬
                                      ‫يبدأ العمل صبا ًحا بسماع القرآن‬          ‫عبر صفحات الرواية‪ ،‬ويعود‬
‫لق ّواد يملكه ويديره‪ ،‬وهو ما جعل‬                                               ‫لخمسينيات القرن وستينياته‬
 ‫أغلب رواده من المومسات وبنات‬            ‫الكريم بصوت الشيخ «محمد‬           ‫وسبعينياته وثمانينياته‪ ،‬في قفزات‬
                                       ‫رفعت» أو «مصطفى إسماعيل»‬
          ‫الليل والباحثين عنهن‪.‬‬        ‫تحدي ًدا‪ ،‬ثم يدير مؤشر الراديو‬           ‫ناعمة لا محسوسة يفرضها‬
                                      ‫ليسمع أم كلثوم أو عبد الوهاب‪،‬‬         ‫سعيه الروائي الدائم نحو إرجاع‬
‫أ ّما الصحافة‪ ،‬فما ترصده الرواية‬        ‫فالرواية تفرد له فص ًل خا ًّصا‬
  ‫بتؤدة وتدريج يجعلك لا تشعر‬           ‫يحمل اسمه‪ ،‬وترسم له صور ًة‬             ‫كل شيء لأصله‪ ،‬أو كما يقول‬
                                                                           ‫أهلنا في تعقيبهم الذك ّي الخالد على‬
‫بمدى بعد السقطة واتساع الهوة‪،‬‬            ‫دقيقة بداي ًة من سمرته وز ّيه‬
‫إنها ليست أفضل حا ًل من المقهى‪،‬‬           ‫المتمثل في القفطان والجلباب‬        ‫سلوك وتفسيرهم له «ع الأصل‬
                                        ‫الصعيدي‪ ،‬بل وتحدد ملامحه‬           ‫دور»‪ ،‬وذلك ليتم القبول بسماحة‬
  ‫وهي التي بدأت على أيدي أعلام‬        ‫النفسية فهو صموت‪ ،‬من النادر‬
                                        ‫أن يبتسم أو يرفع صوته‪ ،‬ولا‬             ‫وبالتماس أعذار‪ ،‬وهي إحدى‬
    ‫أمتنا ورواد نهضتنا الحديثة‪،‬‬      ‫يتدخل في تفاصيل العمل رغم أنه‬         ‫سمات خالد إسماعيل الأثيرة كما‬
    ‫فت ّظل تتناثر مآلاتها السوداء‪،‬‬     ‫يملك الكلمة الفاصلة‪ ،‬لا يتدخل‬
                                     ‫في حدي ٍث ويتساهل مع المعسرين‪،‬‬                 ‫أسلف ُت في بداية الكتابة‪.‬‬
    ‫التي تزداد سوا ًدا كلما أوغلنا‬      ‫وهذا الاهتمام بشخصية المعلم‬             ‫والمهنة والمكان الذى اختارته‬
 ‫في الرواية‪ ،‬حتى إذا جاء الفصل‬          ‫«صالح بدران» من حيث رسم‬                ‫الرواية كناز ٍع لفتيل أحداثها‪،‬‬

 ‫الأخير تص ّرح الرواية على لسان‬             ‫ملامحها بدق ٍة وبشيء من‬               ‫يسمح لهما بلا تعس ٍف أن‬
  ‫الراوي «خلف» الذي يقول وهو‬         ‫التفصيل‪ ،‬لم يفعله خالد إسماعيل‬        ‫يستوعبا شرائح المجتمع المصري‬
                                                                            ‫وبيئاته مهما تباينت‪ ،‬فالمقهى كما‬
‫يدخن الحشيش مع صديقه المعلم‬             ‫مع غيره من شخوص روايته‪،‬‬              ‫هو هدأة العابر‪ ،‬هو مرتاد المقيم‬
                                        ‫مما يشي بتعم ٍد وقصد‪ ،‬ولعل‬
   ‫عماد «لا صحافة ولا جوافة يا‬       ‫موقع المقهى الذى اختارته الرواية‬         ‫وناديه‪ ،‬والصحافة منذ نشأتها‬
                                       ‫بشارع القصر العيني قريبًا من‬         ‫في مصر‪ ،‬في أوائل القرن الماضي‬
                        ‫معلم»‪.‬‬       ‫ميدان التحرير ومج َّمعه ووزارات‬
                                       ‫البحث العلمي والتموين والنقل‪،‬‬          ‫هي سج ٌل للحياة‪ ،‬لكن الروائي‬
  ‫خالد إسماعيل ليس فقط تطو ًرا‬                                                ‫هنا يصدمنا بزيف هذا السجل‬
   ‫طبيعيًّا ونتا ًجا شرعيًّا لمؤرخي‬                                        ‫وكذبه‪ ،‬حين يدخل بنا في كواليس‬
  ‫الحياة المصرية ال ُخلّص ممن لا‬                                            ‫العمل الصحفي ومعمل صناعته‪،‬‬
   ‫نعرف مصر إلا بالرجوع لهم‪،‬‬
‫بل هو بالإضافة لذلك يق ّدم رؤي ًة‬

     ‫فني ًة تحمل مع مزيج متعتها‬
       ‫وجه َة نظ ٍر تستحق التأمل‬

      ‫والدراسة‪ ،‬ككل ف ٍن حقيقي‬
   207   208   209   210   211   212   213   214   215   216   217