Page 31 - ميريت الثقافية- العدد 23 نوفمبر 2020
P. 31
29 إبداع ومبدعون
رؤى نقدية
دائ ًما مشتاق إلى أبي ..أنا ابنه الكبير وحبيبه الكبير لهم« ،أب بائس متخ ٍّل لا يبذل إلا لجلساته الخمرية»
أي ًضا ..كنت دائ ًما أحن إلى أبي إلى طفولتي ..وكنت يعتبر قات ًل .ولكننا لا نشعر بالتشفي والارتياح
أحب أبي ..أدخل من الباب فأجده قد أفاق مما كان بل يفتح علينا موتها أبوا ًبا مشرعة للتيه والتأمل
والتبصر والأسى والأسف.
يفعله على عجل ،واق ًفا يرتدي جلبابه ورأسه عار
وصدره مفتوح وهو حائر فرحان يبحث هنا وهناك ولتناول مسألة «قتل الأب» في الأقصوصة العربية
عن شيء يضعه في قدميه كي يسرع ويقابلني ،فقد بالدرس ،رأيت أن أقف على ن ّصين مختلفين
كان هو الآخر يحبني ،يحبني أكثر من أي شيء آخر
في الوجود ..وأندفع إلى حضنه ،ويندفع إلى حضني، مؤتلفين ،أحدهما َق َت َل الأب الخيّر اللطيف ،وثانيهما
وكم حضنته وكم احتضنني ،وطول عمري كنت أو ّد َق َت َل الأب «العضروط» العربيد المزعج ،وهما
أن أظل أحتضنه ..وها أنا ذا أصبح أطول منه وأحبه
نصان معاصران :أحدهما يعود إلى أواسط القرن
أكثر مما أحببته .ص ..63أبي لا يريد أن ينهي الماضي وهو نص للعبقري المصري يوسف إدريس
العناق ..وأمي أعرف أنها في تلك اللحظة متناومة
تنتظر مني أن أذهب إليها ..وأبي فرحان فرحة لا الذي يعتبر «عل ًما من أعلام الأقصوصة العربية
توصف ،فيضع وراء ظهري مسن ًدا ،أو يجعلني الحديثة ومحطة بارزة في تاريخ هذا الفن لا يمكن
أقوم من مكاني لأجلس في مكان آخر أكثر راحة، تجاوزها»( ،حاتم السالمي ص )15والنص المعتمد هو
أقصوصته «اليد الكبيرة» الصادرة ضمن مجموعة
وهو من فرط فرحته نسي أن يرتدي في قدميه
مدا ًسا »..،ص« ..64وأبي سعيد بيننا كالإله ،كلنا «حادثة شرف».
نحبه ونذوب في حديثه ،ما أجمله حين يتحدث».. وثانيهما نص حديث ج ًّدا صادر سنة 2020
بعنوان« :شركس» ضمن مجموعة «قرية بوتيرو»
ص .65 للكاتبة التونسية التي ما فتئت تساير نهر السرد
القارئ العربي ينام ويصحو على «أحن إلى خبز بثبات ورسوخ قدم ،تنحت في ثنايا الواقعية
بأسلوب مخصوص قوامه الخيال الفياض واللغة
أمي*» ،أما الحنين إلى الأب فخجول مسكوت الشعرية الساحرة .وهي التونسية لمياء بوكيل.
عنه ،لا أعلم أديبًا عربيًّا استطاع أن يرسم صورة
عاطفية للعلاقة بين الابن الشاب وأبيه كالتي رسمها -1اليد الكبيرة وموت الأب الخ ّير
يوسف إدريس ،هي صورة كسرت أسطورة العقدة
الأوديبية ،وحققت مصالحة بين الأب والابن .ولو رغم أن صورة الأب في الأدب العربي الواقعي هي
أعدنا صياغة هذه الفقرة الوصفية السابقة فغيرنا مرآة لصورته المرجعية باعتباره رمز الصرامة
الأفعال المسندة إلى الأب لنجعلها مسندة إلى الأم، والحزم والصلابة والشدة من جهة ،ومصد ًرا
لكانت الصورة في نظر الكثيرين أنسب ،لأن الأم في
واقعنا وتاريخنا وأدبنا وسيرنا هي رمز العاطفة للمال والعطاء والكرم من جهة أخرى ،أو كما قال
الجياشة واللهفة إلى لقيا الابن الحبيب بشوق طفولي ميخائيل نعيمة «هو مصدر مال وإزعاج*» ،فإن
ينسيها أن تضع في قدميها مدا ًسا .لقد ارتفع يوسف
إدريس بالأب وجعله بؤرة حبه وجنونه ،كما جعله يوسف إدريس في أقصوصة «اليد الكبيرة» قد
استطاع أن يكسر هذه الصورة النمطية الكلاسيكية،
هو أي ًضا محبًّا ينكر ذاته في سبيل «ظلّه الممتد»، فحقق مصالحة بين الراوي الشاب الطالب الجامعي
وكنّى عنه بـ»اليد الكبيرة» ،اليد التي تسع الجميع،
وأبيه العجوز البدوي ،هي علاقة وصال وعاطفة
ويطال عطاؤها القريب والبعيد ،اليد الجديدة جياشة ،وبوح واندفاع دون تحفظ ،رغم أننا نعلم
التي تر ّبت وتحضن ولا تصفع ،اليد التي تشمل أن الأب التقليدي كتوم ،يصطنع الغلظة والشدة ولو
الخير عطا ًء والجمال حنا ًنا .فع ًل ،لم يكن الأب في كان قلبه يتفطر حبًّا ورقة لأبنائه ،قدره أن يخفي
أقصوصة يوسف إدريس ي ًدا كبيرة وحسب ،بل
هو يد كبيرة وقلب كبير وعقل بصير وروح مفعمة مشاعره داخل الأسرة ..ولكن الاستثناء يحدث
في «اليد الكبيرة» ليوسف إدريس؛ يصف الشاب
لحظة وصوله إلى القرية ودخوله البيت ،فيقول «أنا