Page 32 - ميريت الثقافية- العدد 23 نوفمبر 2020
P. 32

‫العـدد ‪23‬‬    ‫‪30‬‬

                                                     ‫نوفمبر ‪٢٠٢٠‬‬

   ‫عماد الدار ووتدها‪ ،‬يقول الراوي‪« :‬ووجدت باب‬        ‫بكل القيم الربانية السامية‪ ،‬لذلك شبهه بالاله قائ ًل‪:‬‬
‫البيت مفتو ًحا هو الآخر‪ ،‬ولا أحد على الباب‪ ،‬ولا أحد‬      ‫«وأبي سعيد بيننا كالإله»‪ .‬إن العدول والانزياح‬
                                                           ‫في هذه الصورة الجديدة للأب البدوي الريفي‬
   ‫في الداخل‪ ،‬ولا أحد ينتظرني‪ ،‬وكل شيء مهمل‪..‬‬           ‫كامنان في هذه الليونة وهذا اللطف اللذين تسربا‬
             ‫وأحسست أن بيتنا قد خرب» ص‪.68‬‬
                                                      ‫إليه‪ ،‬واستقرت في كيانه رغم شظف العيش وبؤس‬
‫إن تواتر النفي المطلق بـ»لاء النافية للجنس» في هذا‬    ‫الحال‪ .‬أ فبعد كل هذا السمو بالأب إلى مرتبة الحلم‬
 ‫المقطع‪ ،‬يدل على العدم واللاشيء لأن الأب كان كل‬       ‫والأمل «يقتل» يوسف إدريس البطل‪ /‬الأب‪ /‬الإله؟‬
                                                      ‫ليس في الأمر غرابة ولا شذوذ‪ ،‬فالكاتب منخرط في‬
     ‫شيء‪ ،‬به وحده كان المنزل المتواضع مزدح ًما‪.‬‬      ‫تصور اجتماعي وحضاري عام يسود فيه اعتقاد أن‬
                   ‫«أبي هنا إذن تحت هذا التراب»‬      ‫«ال َج ِميلِي َن» وحدهم هم الذين يموتون‪ ،‬وأن المرء إذا‬
                                                       ‫لان طبعه وحسن خلقه فاعلم أن رجله في الركاب‪،‬‬
                 ‫«كيف تموت قبل أن أشبع منك»؟‬           ‫أ ّما الأشرار فهم الأقدر على البقاء‪ ،‬مهما تمنى لهم‬
 ‫لقد فزع الراوي بآماله إلى التكذيب والإنكار‪ ،‬وغلب‬      ‫الجميع الفناء‪ .‬يقول عبد الوهاب البياتي‪« :‬وك ّل ما‬

   ‫الوهم والخيال الحقيقة البشعة‪ ،‬وماضي الوصل‬                                 ‫نحبّه يرحل أو يموت*»‪.‬‬
    ‫هزم لحظة القطيعة والفراق الأبدي‪ ،‬كيف يموت‬             ‫ويقول أبو تمام في السياق ذاته راثيًا محمد بن‬
‫الأب الذي جعله الكاتب في بداية الأقصوصة مشرق‬
   ‫شمس الأمل ومبعث الوئام والفرح ومدار التئام‬                                         ‫حميد الطوسي‪:‬‬
‫الشمل والاتحاد‪ ،‬وها قد مات‪« :‬فما كان موته موت‬                              ‫عليك سلام الله وقفا فإنني‬
                                                                      ‫رأيت الكريم الح ّر ليس له عمر*‬
                  ‫واحد ولكنه بنيان قوم تهدم»‪*.‬‬       ‫وفاء لهذا التصور السابق سوف تنتهي الأقصوصة‬
‫لموت العزيز وقع نفسي وسردي عظيم‪ ،‬ولـ»القتل»‬               ‫بعودة الابن الشاب من المدينة حيث يدرس إلى‬
                                                          ‫القرية حيث أسرته‪ ،‬ومنها إلى البيت والأشواق‬
    ‫إذن مشروعية سردية تأثيرية خ ّطط لها الكاتب‬         ‫تحدوه‪ ،‬ظا ًّنا أن الوضع الأصلي لـ»القصة» مازال‬
      ‫من البداية‪ ،‬أليس غاية الغايات التي يروم كل‬           ‫على حاله‪ ،‬لكن عودته هذه المرة كانت مخالفة‪،‬‬
                                                      ‫صادمة‪ ،‬مرعبة‪ .‬لأن الراوي سيجد المنزل قد خرب‬
  ‫كاتب تحقيقها أن تسكنك القصة بعد قراءتها‪ ،‬وقد‬       ‫بحدث قاصم للظهر غير منتظر‪ ،‬ألا وهو موت الأب؛‬
     ‫فعل يوسف إدريس‪ ،‬وقد وفق أيما توفيق‪ ،‬فلو‬
     ‫كان «القتيل» غير الأب لفتر التشويق وضعفت‬
     ‫الحبكة‪ ،‬ولو كان الأب على غير تلك الصورة ما‬

 ‫كان لموته وقع‪ .‬إذن فما جدوى أن «نقتل» الأشرار‬
  ‫في أقاصيصنا؟ وهل يكون لموت الأشرار وقع على‬

                                        ‫المتلقي؟‬

  ‫«شركس» وموت الأب الش ّرير‬

‫المشهد في «شركس» مخالف تما ًما‪ ،‬ففي غياب‬
    ‫الأب لم يكن البيت قد خرب هذه المرة‪ ،‬بل‬

  ‫كان يع ّمه الفرح والحبور ومظاهر الاحتفال‬
    ‫بالسنة الميلادية الجديدة‪ ،‬وئام ليس مثله‬

  ‫وئام‪« :‬انطلقت الشماريخ والهتافات‪ ،‬ماجت‬
‫الحلبة المستديرة‪ ،‬الصاخبة بالمحتفلين يهللون‬

   ‫ويتبادلون القبل‪ ،‬استدارت (الصبية) نحو‬
    ‫أمها ول ّفت ذراعها حولها‪ ،‬غمرتها بالقبل‪،‬‬
‫بين الضمة والضمة تقول‪« :‬يا ميمتي الغالية‪،‬‬
  ‫الله لا يحرمني منك (لم تعد كل فتاة بأبيها‬
   27   28   29   30   31   32   33   34   35   36   37