Page 34 - ميريت الثقافية- العدد 23 نوفمبر 2020
P. 34
العـدد 23 32
نوفمبر ٢٠٢٠
حاتم السالمي« :ولما كانت الأقصوصة محكومة شعرها ،وع ّرى نهديها ،وهتك سترها ،وألقى بها في
بزمن وجيز فإنها تبني الشخصية بناء يلائم ما شوارع الطيش والانحراف ..لم يسلم من هيجان
يتميز به هذا الجنس القصصي من اقتصاد في الأب «العضروط» لحظة عصفت الخمرة بمداركه
العبارة وإيجاز في تصريف الكلام الفني ،ومن هذه
الجهة يبدو التعامل مع الشخصية في الأقصوصة أحد؛ لا البشر (زوجته وأبناؤه) ولا الحيوان (القط
على قدر من الصعوبة كبير طالما أنها تعيش داخل شركس المسكين) ولا الحجر (الجدران) ولا حتى
الانقطاع ،الباحث إذن ليس بوسعه الإمساك المحكم الخشب (الأبواب) ..لذلك حري بهذه الشخصية أن
تعود إلى غيابها ،حري بالسارد /الكاتب أن «يقتلها»
بخاصة الشخصية الأقصوصية ما لم يقارنها
بنظيرتها الروائية» (حاتم ،)46لذلك جاء الأسلوب كي يعود الهدوء ويكتمل الحفل وتنعم الصبية.
وفع ًل يستجيب الراوي ومن ورائه الكاتب لهذا
واللغة إيحائيين مختزلين في نص لمياء بوكيل. الرجاء فيع ّجل قتله« :قت ًل على غير الصيغ السردية
ما بين النصين وعلى غير المعتاد الروائي»*.
ولكن هل كان الأب شري ًرا ح ًّقا؟ هل يحقق حدث
صحيح قتل الأب في أقصوصة لمياء بوكيل مخالف
تما ًما لقتل الأب في أقصوصة اليد الكبيرة ،فهنا موته الهدوء النهائي المرتقب؟
قتل مريح مزيح لمن أدخل الازعاج والنكد ،بينما نبأ موت الأب «العضروط» أربك المتلقي وهو متل ّق
محايد ،لا ناقة له في الاحتفال برأس السنة ،ولا جمل
هناك موت بحجم الواقعة لأنه غيّب الجمال في أج ّل لديه كي يع ّب من مشروب هذا الاحتفال؟ فكيف إذن
معانيه ،ولكن القارئ العميق لن يتشفى من الدم سيفعل نبأ الموت بالصبية هاجر وبالأسرة كلها؟
النازف من قدم «الشرير العابث» (الأب المنجي)،
حقيقة –وقد يكون حك ًما انطباعيًّا -استطاعت
ولن يتلذذ بالجثة الهامدة للعربيد .إنه أب ،قد يكون الكاتبة بحرفية نادرة ،وبصورة لا تقوى عليها إلا
ضحية اجتماعية ،قد يكون ابنًا لطفولة منتهكة تم ريشة كبار الرسامين ،أو عدسة مصور محظوظ
إلقاؤها في مزابل المجتمع ،قد يكون ضحية زوجة وموهوب كي يلتقط الصورة في آنها ومكانها ،أن
ظالمة مستطيعة بغيرها مستبدة بالقانون .قد
يكون ضحية عنف سياسي في ظل نظم قادرة على ترسم لوحة وصفية تخييلية فظيعة ،هي لوحة
اكتساب جميع المعارف واشتراء كل البرمجيات صارخة في صمتها ،مفعمة بالحياة والاحتجاج
الباهضة التي تحول المتزنين من معارضيها إلى في موتها ،وهي لوحة موت الأب ممس ًكا بمعصم
مختلين ،والنمطيين إلى عابثين ،والمحافظين إلى ابنته هاجر ،وهي مائلة برأسها على جسمه دون
نوكى متهتكين (ميشال فوكو السلطة والمعرفة)، أن تدري أنها تستند إلى جثة هامدة« :كانت هاجر
إذن «القتيلان» سيان ،رغم أن يوسف إدريس قد لا تزال نائمة ،ومائلة بوجهها الملائكي على جسد
أبيها دون أن تحس بقبضته وهي تش ّد على يدها،
قتل الأب الحنون المنتصب في الأسرة كالإله ،وقتلت ودون أن تنتبه إلى وجهه الممتقع وعينيه الجاحظتين
لمياء بوكيل الأب «العضروط» الذي لم يسلم من أذاه وجسده الهامد فوق بركة من الدماء تحت رجله»،
حتى القط التركي المستكين .ظاهر المشروعين تباين، لوحة تجعل القارئ على يقين أن الأب المزعج سكرا ًنا
ليس هو عين الأب مدر ًكا صاحيًا ،ولو كان المقام
ولكن باطنهما تشابه والتقاء ،ذلك أن «القتل» أي مقا ًما روائيًّا لأطنبت الكاتبة في إحاطة «العضروط»
الموت مهما كانت كيفيته يعتبر من الأحداث القوادح وص ًفا وتعري ًفا؛ عبر الوصف الباطني النفسي
وأحلام اليقظة والحوار الباطني الانفجاري انفجار
التي يمكن التعويل عليها في البناء السردي. المكلومين ،الهذياني هذيان الأبطال التراجيديين
مفهوم الموت والحياة في الأدب إنما هو مفهوم وعبر الاسترجاع والاستطراد (هذه العناصر تتسع
بنيوي فني لا دلالي ،فموت الأب الإله ،الأب اليد لها القصة والرواية) ..ولكن مقام الأقصوصة أقصر
الكبيرة كان مو ًتا حتميًّا إيجابيًّا حتى يفسح المجال من أن نضيعه في التفاصيل على حد تعبير الدكتور
للابن الأكبر أن يتلألأ سرد ًّيا ويتفرد بالفعل