Page 38 - ميريت الثقافية- العدد 23 نوفمبر 2020
P. 38

‫العـدد ‪23‬‬    ‫‪36‬‬

                                                       ‫نوفمبر ‪٢٠٢٠‬‬

    ‫المفترض من أبعاد ودوافع وخلفيات تصل لحد‬            ‫مختلفة وكمان من فراعنة لرومان لفاطميين لمماليك‬
 ‫الاتهام والتخوين‪ ،‬الذي يتجدد بين الحين والآخر‪،‬‬          ‫لأتراك لفرنسيين لإنجليز‪ ،‬مش مجرد تاريخ إنما‬
 ‫كما يرصد الدكتور صلاح الراوي في مقاله بمجلة‬             ‫توليفة كسبتها العامية واستوعبتها بجمال يجنن»‬
                                                        ‫من شهادة لصالح الغازي بمجلة الشعر في عددها‬
    ‫الشعر (الفصحى والعامية‪ ..‬وما صنع الحداد)‪،‬‬                      ‫الخاص عن شعراء العامية في مصر(‪.)1‬‬
     ‫حيث يناقش هذه القضية مناقشة علمية هادئة‬               ‫وكان أن خرج من رحم هذه اللغة ‪-‬ومع تطور‬
     ‫مستشه ًدا بالتعبير الشعبي (ما صنع الحداد)‪،‬‬             ‫الفنون‪ -‬ما يكتب ليحكى وما يكتب ليتغنى به‬
 ‫وهو «التعبير الذي يتداوله الناس بكثرة بالغة وهم‬            ‫الناس وما يكتب ليمثل على المسارح وما يكتب‬
    ‫على وعي عميق بمبناه ومعناه ومرماه‪ ،‬دون ان‬            ‫ليملأ شاشات السينما والتلفاز وما يكتب ليتدفق‬
‫يناقش أحد فصاحته أو عاميته‪ ،‬إذ لا معنى لمناقشة‬
   ‫بيزنطية بينما الحياة ولغتها تجريان جيرانا هينًا‬      ‫عبر الورق شع ًرا وق ًّصا ورواية‪ ،‬فنًّا خال ًصا ينطلق‬
 ‫لينًا‪ ..‬نعم لم يناقش أحد هذا التشكيل المحكم‪ ..‬ولم‬     ‫منهم ويعبر عنهم ويؤرخ لهم ليصير متنف ًسا هائ ًل‬
    ‫يشغل أحد نفسه بإجراء تحقيق قضائي لمعرفة‬
 ‫ما اذا كان هذا التشكيل قد تم ضبطه متلب ًسا وهو‬             ‫لأصحاب حضارة أتت عليها الأيام‪ ،‬فأخذت ما‬
      ‫يهبط من قمة الهرم اللغوي المعتمدة‪ ،‬ليجد له‬          ‫أخذت وأبقت ما أبقت‪ ،‬لكنها وفي كل الأحوال لم‬
   ‫وجدان ولسان مستخدم واع بمنطقه ومضمونه‬                  ‫تستطع أن تسلبهم التصاقهم بطين الأرض وماء‬
                                                         ‫النهر هوي ًة ومحب ًة للمكان والتاريخ‪ ،‬نعم‪ ،‬لم يكن‬
        ‫وغايته‪ ،‬في الإفصاح عن مكنون النفس»(‪.)3‬‬           ‫هنالك أفضل من لغة المصريين محكيها ومكتوبها‬
   ‫كما أن للتدوين بالعامية المصرية ووظيفة الأدب‬             ‫الأحدث نسبيًّا ليعبر عن أصحاب هذه الأرض‪،‬‬
  ‫ودوره ودور اللغة في الحفاظ على الهوية مساحة‬            ‫وكان من مكاسب تطور أدوات التسجيل أن كتب‬

     ‫تتجدد وتتسع للنقاش‪ ،‬طارحة للتساؤل حول‬                   ‫لهذه اللغة البقاء في ذاكرة أصحابها وورثتهم‬
   ‫طبيعة العلاقة بين الشفاهية والكتابية في الثقافة‬      ‫جي ًل بعد جيل‪ ،‬يطورونها ويمنحونها من أرواحهم‬
    ‫العربية‪ ،‬كما يطرح عمر العزالي في الملمح الثالث‬      ‫ومعارفهم ما لم يتح لقرون سلفت عبر فنون اللغة‬
   ‫لكتابه عن لغة رواية الواقع الافتراضي (التدوين‬
                                                                                       ‫والأداء المختلفة‪.‬‬
      ‫بالعامية المصرية واللهجات العربية المختلفة)‪،‬‬        ‫ويرى الشاعر والناقد محمود الحلواني في كتابه‬
  ‫حيث يرى «أن إشكالية التدوين بالعامية المصرية‬
                                                            ‫(خيال الضرورة ومرجعياته) أن شعر العامية‬
     ‫قد قتلت بحثًا‪ ،‬فمن الاتهام بهدم اللغة العربية‪،‬‬    ‫المصرية كان «ضرورة» ثقافية تنويرية لا غناء عنها‬
   ‫وبالتالي هدم كل منجزها الفكري والثقافي والنيل‬
  ‫منها بتغييب درة تاجها القرآن الكريم؛ إلى الاتهام‬        ‫لمخاطبة الشعب والتعبير عن آلامه وآماله‪ ،‬الأمر‬
                                                         ‫الذي كان له التأثير الكبير في توجيه شعر العامية‬
    ‫بأن الدعوة في البداية كان وراءها علماء أجانب‬          ‫نحو معالجة كل ما يحسبه «ضرورة» اجتماعية‪،‬‬
  ‫‪-‬بسوء نية‪ -‬رأوا توسيع نطاق البحث العلمي في‬              ‫فيما يعد التزا ًما أخلاقيًّا منه نحو مجتمعه‪ .‬حيث‬
   ‫العامية المصرية‪ ،‬بما يضفي عليها أهمية تسهلها‬
    ‫لاحتلال مكان العربية الفصحى‪ ..‬وهذه الدعوة‪،‬‬              ‫«يمكن القول إن شعر العامية المصرية بوصفه‬
 ‫وإن كانت تنطلق من هاجس وتجربة فكرية وليس‬                    ‫خطا ًبا أدبيًّا صاحب نشأته تأكيد على الالتزام‬
  ‫من تجربة إبداعية لها ضروراتها الفنية‪ ،‬لكنها في‬       ‫بقضايا الشعب والانتماء لطبقاته الأكدح والأوسع‪،‬‬
‫كل الأحوال مثلت تيا ًرا حقيقيًّا يثبت للعامية قدراتها‬
                                                                ‫وتصميم حقيقي على الوصول إليها بلغتها‬
       ‫الجمالية على الأداء الفني المدهش‪ ..‬من خلال‬      ‫‪-‬بلغاتها‪ -‬مع عدم إغفال كونه منت ًجا فرد ًّيا يتفاعل‬
‫توظيف مفردات العامية المصرية وتراكيبها انعكا ًسا‬
                                                            ‫هذا الخيال الاجتماعي العريض ويتجادل معه‪،‬‬
  ‫للبنية الجمالية اللغوية الخاصة بها داخل التجربة‬       ‫مفر ًزا ما يمكن النظر إليه بوصفه خيا ًل خا ًّصا به‪،‬‬
                                   ‫الإبداعية»(‪.)4‬‬
                                                                        ‫يميزه ويشكل إضافة تخصه»(‪.)2‬‬
  ‫وفي الشعر كغيره من الفنون كان وصار وسيظل‬              ‫ورغم صراع مفتعل ودائم وطرح لا ينقطع لقضية‬

                                                          ‫الفصحى والعامية‪ ،‬وما يتم تحميله لهذا الصراع‬
   33   34   35   36   37   38   39   40   41   42   43