Page 42 - ميريت الثقافية- العدد 23 نوفمبر 2020
P. 42

‫العـدد ‪23‬‬    ‫‪40‬‬

                                                       ‫نوفمبر ‪٢٠٢٠‬‬

  ‫حل فردي آخر يحاول به مواجهة العالم وصياغة‬                 ‫ويتركون آثارهم فيها وفي أرواح شعرائنا‪ ،‬ما‬
 ‫معادلته الخاصة وفق شروطه الخاصة لقبول هذا‬                ‫أدى إلى تنوع القصائد واحتفائها بزخم وصخب‬
                                                        ‫يلتحم فيه المكان والزمان بالبشر‪ ،‬مشكلين وجو ًدا‬
                                       ‫الوجود‪.‬‬          ‫خا ًّصا تبرز فيه الأماكن وتتشكل وتتلون بالوجود‬
       ‫علاقة الذات بالآخر وأزمتها الوجودية تبرز‬         ‫البشري‪ ،‬كما تترك هي آثارها في كل ما هو نحن‪..‬‬
  ‫واضحة‪ ،‬بما يشوب هذه العلاقة دائ ًما من تشابك‬
 ‫وما يشكله تنوع هذا الآخر وما يمنحه في أحايين‪،‬‬                ‫فالأماكن بناسها تقتحم وجود الشاعر الذي‬
  ‫مما يعيد للمرء إحساسه بآدميته من ًحا بلا حدود‪،‬‬           ‫يحاول من خلال ذاكرته السردية أن يدخلنا في‬
  ‫كما أنه قد يكون لوجود هذا الآخر بالجوار وطأة‬            ‫عالمه‪ ،‬نرى معه ونسمع‪ ،‬مشار ًكا إيانا تساؤلات‬
 ‫بما يمثله هذا الوجود أحيا ًنا من عبء وثقل‪ ،‬تجعل‬       ‫كثيرة لا يطمع في وجود أجوبة لها‪ .‬وهو ما يحيلنا‬
‫من مجرد تواجده مأساة بما يشعه ويفيض منه من‬                ‫مرة أخرى إلى العلاقة التبادلية بين الأدب والفن‬
 ‫مشاعر سلبية‪ ،‬فيصبح الآخر هو الجحيم تصدي ًقا‬             ‫عمو ًما وعلم النفس الذي تقوم نظرياته الإنسانية‬
    ‫لقول سارتر في هذا الشأن‪ ..‬العلاقة بهذا الآخر‬           ‫والوجودية ‪-‬كما يطرح كارل روجر‪ -‬على هذه‬
     ‫فيما تتخذه من أشكا ٍل وما ينتابها من تبدلا ٍت‬          ‫المعضلة الوجودية للإنسان‪ ،‬وتربط الحرية في‬
  ‫وأحوا ٍل‪ ،‬وما يطرأ عليها بفعل القرب والبعد‪ ،‬وما‬          ‫منظرها الأسمى بالسعي البشري الدؤوب نحو‬
‫قد ينشأ عنهما من أثر على طرفي العلاقة‪ ،‬وما يتولد‬          ‫التطور والتحقق عبر المسؤولية الفردية‪ ،‬وهو ما‬
   ‫من حرارة التفاعل والامتزاج‪ ،‬وما قد تولده هزة‬          ‫ظهر واض ًحا في أدب وفن ما بعد الحروب العالمية‬
 ‫الاصطدام بالواقع وبأوجه الاختلافات وصعوبات‬             ‫الكبرى في اتجاهات الفوضوية والعبثية والكتابات‬
  ‫التلاعب والمناورة والمواجهة التي قد يضطر المرء‬
   ‫إليها أحيا ًنا كحي ٍل ودفاعا ٍت قد لا يعلم هو نفسه‬        ‫الوجودية لكبار كتاب العالم كسارتر و كامو‬
      ‫عنها شيئًا‪ ،‬وما يمايز هذه العلاقة حين تكون‬       ‫وبيكيت وغيرهم‪ .‬وقد احتلت الذات في رحلة بحثها‬
  ‫علاقة ح ٍّب متبادلة يكتنفها ما يكتنفها من تشابك‬      ‫عن معنى لوجودها تنطلق منه في تعاملها مع العالم‬
   ‫العلاقات البشرية‪ ،‬ويزيدها صعوبة وتشاب ًكا أن‬
     ‫تكون حيل كل طر ٍف مقروءة ومرئية بوضو ٍح‬               ‫بكل ما هو هذا العالم وما يفيض به من آخر لا‬
    ‫وجلا ٍء للحبيب ‪-‬الشريك الحميم–‪ ،‬بالإضافة لما‬       ‫غنى عن وجوده والتماس معه‪ ،‬إن لم يكن الاشتباك‬
‫ينتج عن هذه الحميمية والقرب الشديد ‪-‬الذي يكاد‬          ‫معه عبر العلاقات الاجتماعية المختلفة والمتفاوتة في‬
‫يتغلغل به الواحد إلى روح شريكه‪ -‬وما يترتب على‬
 ‫ذلك من وع ٍي ورؤية وكشف كانت من أهم الملامح‬             ‫مدى تأثيرها ووقعها على حالة الوجود الإنساني‬
  ‫في دواوين‪« :‬كهربا رباني» ليحيى قدري‪ »،‬سوبر‬             ‫الفردي‪ .‬هذا الاشتباك الحتمي حتم وجود الآخر‪،‬‬
   ‫ماركت «أمينة عبد الله‪« ،‬سلموا عليا كأني بعيد»‬
 ‫صالح الغازي‪« ،‬قطة وقديسة وجنية» عبد الرحيم‬               ‫وهذه العلاقة الدياليكتية المستمرة كانت المحرك‬
 ‫يوسف وغيرهم‪ .‬الذات حاضرة ومأزومة في كثير‬               ‫الدائم لبحث هذه الذات عن موقعها من العالم ومن‬
      ‫من القصائد تطرح أزمتها الوجودية وسعيها‬           ‫هذا الآخر‪ ،‬هؤلاء الآخرون الذين لا غنى عنهم وفق‬
    ‫للتعايش مع الواقع واحتوائه بكل ما يحمله من‬
    ‫نقائض ومتناقضات‪ ،‬تتعايش مع الوجع والألم‬               ‫الظرف الإنساني الذي يفترض بد ًءا أن الإنسان‬
     ‫في إصرا ٍر على البقاء وتشبث بالبهجة‪« .‬السما‬           ‫كائن اجتماعي‪ ،‬يشكل بفرادته وفرديته الوحدة‬
  ‫مابتبتسمش زي أم لرضيعها‪ ،‬لكني لسه باضحك‬
‫لما بافتكر موقف حلو‪ ..‬وأرمي ورا ضهري»‪ .‬صالح‬                            ‫الأصغر للمجتمع البشري الكبير‪.‬‬
                                                         ‫ومع تصاعد أزمات الإنسان الوجودية واستمرار‬
             ‫الغازي «سلموا عليا وكأني بعيد»(‪.)13‬‬       ‫الأسئلة التي حل عن الهموم الإنسانية العامة‪ ،‬ومع‬
  ‫توكيد الذات ومحاولة الانتصار لها ‪-‬ربما حفا ًظا‬         ‫مراوغة الحقائق والمفاهيم الكبرى وتداعي الكثير‬

                                                           ‫منها إثر التجارب والخبرات الإنسانية الموجعة‪،‬‬
                                                          ‫اتجهت ذات المبدع إلى الفردية والذاتوية اختيا ًرا‬
                                                          ‫هو أقرب للاضطرار لمحاولة الفهم وإعادة النظر‬
                                                          ‫في قيمة كل هذه المفاهيم الكبرى‪ ،‬ومدى اتساقها‬
                                                         ‫مع الحق الإنساني المشروع في الوجود والتحقق‪،‬‬
   37   38   39   40   41   42   43   44   45   46   47