Page 33 - ميريت الثقافية- العدد 23 نوفمبر 2020
P. 33

‫لقد ارتفع يوسف إدريس بالأب‬

‫وجعله بؤرة حبه وجنونه‪ ،‬كما‬

‫جعله هو أي ًضا مح ًّبا ينكر ذاته‬

‫في سبيل «ظّله الممتد»‪ ،‬وك ّنى‬

‫عنه بـ»اليد الكبيرة»‪ ،‬اليد التي‬

‫تسع الجميع‪ ،‬ويطال عطاؤها‬

‫القريب والبعيد‪ ،‬اليد الجديدة‬

‫التي تر ّبت وتحضن ولا تصفع‪،‬‬                           ‫يوسف إدريس‬
  ‫اليد التي تشمل الخير عطا ًء‬

‫والجمال حنا ًنا‬                                       ‫معجبة‪ ،‬ولم تناصب أمها العداء غيرة‬

                                                      ‫على أبيها‪ ،‬بل الفتاة بأمها مفتتنة‬

                                                      ‫مغرمة عالقة)‪« ،‬حاصراها (ابناها وليد‬

                                                      ‫وهاجر) بالدفء والقبل‪ ..‬احتضنتهما‬

                                                      ‫بقوة ضاغطة‪ ،‬كأنها تو ّد لو تعيدهما‬
                                                      ‫إلى بطنها‪( .»..‬ص‪)9‬‬
    ‫اشمئزاز الجميع‪ ،‬حتى ُيرجى لو استمر غيابه‪،‬‬
‫وصورة الأب المزعج هي للأسف صورة واقعية من‬              ‫كل هذه الأفعال الوصفية ح ّمالة دلالة و ّد والتئام‬
                                                      ‫شمل‪ ،‬وانصهار وجداني أسري لا ينغصه منغص‬
‫رحم الواقع الاجتماعي‪ ،‬فقد يتزوج شاب طائش إثر‬
‫نزوة أو خطيئة‪ ،‬ثم يستمر في غيّه وتيهه وإدمانه كل‬          ‫في لحظة صفاء مكتملة‪ ،‬وفي غياب الأب طب ًعا‪،‬‬
‫أنواع المسكرات والمخدرات‪ ،‬تعصف بلبه وجسمه‬             ‫الأب الذي بدخوله ستفسد لوحة الصفاء ويلوطها‬

‫وبجميع علاقاته الاجتماعية والشغلية والربانية‪.‬‬         ‫السواد‪ ،‬وتغيب عنها الطمأنينة‪« :‬لكنها انتفضت‬

‫وتتضاعف المصيبة إذا أنجب أطفالا‪ .‬عندما يسكر‬           ‫فجأة‪ ،‬سي منجي يعود آخر الليل‪ ،‬ربي يستر لقد‬

‫الأب يتحول إلى شخصية غريبة عن نفسه وعن‬                ‫أثقل هذه الليلة»‪ .‬الأب شخصية معرقلة؛ معرقلة‬

‫أهله‪ ،‬تتفجر إلى السطح منه كل الشرور الآدمية‬           ‫بأحوالها وصفاتها وهيئاتها‪« :‬العضروط» (صفة‪:‬‬

‫من سب وشتم وعنف أعمى‪ ..‬ويزداد العنف مرارة‬             ‫في الدارجة التونسية تطلق على الرجل الطويل‬

                                                      ‫الضخم)‪ ،‬يستر ّد بأسه وتوازنه‪ ،‬متهالك‪ ،‬مترنح‪،‬‬
‫اشتعلت عيناه كالشرارة‪ ،»..،‬الأب شخصية معرقلة عندما يمارس أمام بنت صبية تتلاطم بها أمواج‬
‫الصبى والمراهقة (هاجر)‪ ،‬وهي تبحث عن حضن‬               ‫بأقوالها أيضا‪« :‬يا ولد الكلب‪ ،‬م ّل ريتك ما ريت‬

‫شاطئ عليه تنفث كل ضيقها وهمومها وتوقها‬                ‫خير» (متوع ًدا القط شركس)‪ ،‬شخصية معرقلة‬

‫وأحلامها وتطلعاتها‪ ..‬ولكنها تنكسر على صورة‬            ‫بسلوكاتها وأفعالها المزعجة‪ ،‬المفسدة لكل مظاهر‬
‫َم َثلِ َها الأعلى‪« :‬بسرواله المرتخي والمبلل‪ ،‬وقميصه‬
                                                      ‫الهدوء‪« :‬أعرض عن كريم ودفعه بشدة‪ ،‬دفع الباب‬
‫بكلتا يديه‪ ،‬أزاحها من طريقه ب َدفعة قاسية متوحشة الفاقد لكل أزراره‪ ،‬وسيجارته المتدلية من فمه‬
‫الأدرد»‪.‬‬                                              ‫أردتها أر ًضا‪.»..‬‬

‫المرارة كل المرارة أن تجد الصبية أباها يمارس عليها‬    ‫بين الأب الدخيل وبقية أفراد الأسرة (العنصر‬

‫الأصيل) قطيعة أيما قطيعة‪ ،‬يربك حضوره (دخول وعلى أمها وأخواتها أبشع أنواع القتل النفسي‪..‬‬

‫إنه وقد فعل ما فعل‪ ،‬فكأنما ركلها‪ ،‬وسحبها من‬           ‫شخصية جديدة) الوضع ويفسد الود‪ ،‬ويثير‬
   28   29   30   31   32   33   34   35   36   37   38