Page 119 - ميريت الثقافية- العدد 19- يوليو 2020
P. 119

‫نون النسوة ‪1 1 9‬‬                                          ‫فرضتها هذه القصيدة التي تمردت على ميراث الشعر‬
                                                               ‫العربي‪ ،‬ومن هذه القيم الجمالية الاحتفاء بما هو‬
                         ‫مع أتيليه «ضي» للفنون‪.‬‬
‫منذ العتبات النصية الأولى التي ُتع ُّد مفتا ًحا قرائيًّا‬   ‫ذاتي يكشف رؤية شاعرها للعالم والوجود‪ ،‬ومقاومة‬
                                                          ‫تش ِّظي الذات ومواجعها أمام هذا الوجود‪ ،‬وعدم سعي‬
     ‫مه ًّما للديوان والذات الشاعرة تتمثَّل موقفها من‬
  ‫العالم‪ ،‬بداية من العنوان «قبلات مستعارة» وما في‬           ‫الشاعر إلى أن يغيِّر العالم‪ ،‬فيكتفي فقط أن يعبر عن‬
  ‫كلمة مستعارة من شيء غير حقيقي‪ ،‬شيء مز َّيف‪،‬‬             ‫وجوده في هذا العالم‪ .‬كما يتناول الشاعر ما هو يومي‬

   ‫شيء لا ينتمي للذات الشاعرة‪ ،‬فهي قبلات ليست‬                 ‫وعادي بمنحه «دهشة» و«طزاجة» مفارقة للعادي‬
   ‫لها على أية حال‪ .‬ومرو ًرا بالتصدير التي ترى فيه‬        ‫واليومي الذي يمكن أن أتمثله أنا وأنت‪ ،‬فشاعر قصيدة‬
    ‫أنها ستذهب يو ًما بعي ًدا لكنها ستترك لنا كلماتها‬
  ‫التي أخذت روحها وتملَّكتها بشدة‪ ،‬وكأن العالم في‬            ‫النثر لم يعد ذلك الحالم العظيم بتغيير الوجود‪ ،‬ولم‬
‫قسوته دفعها لتكون قاسية القلب‪ ،‬لكن حقيقة روحها‬               ‫يعد ذلك الشاعر الذي يحمل قداسة قديمة تأتي إليه‬
                                                           ‫ربما من موضوعة «الإلهام» و«الوحي» اللذين يأتيانه‬
        ‫غير ذلك‪ ،‬لكنها ستترك كلماتها شاه ًدا عليها‪:‬‬       ‫وهو يجوب الآفاق باحثًا عن شياطين الشعر وملهميه‪.‬‬
                        ‫«تعجبني هذه الكلمات‬                  ‫كما أن شاعر قصيدة احتفى بالجسد وكتب قصائد‬
                                                           ‫يتغنَّى فيها ربما بضعف هذا الجسد الإنساني الواهي‬
                 ‫تأخذ روحي وتتملَّكني بشدة‪،‬‬
           ‫أونامتالتسلِّيطةع‪،‬ل َّي أن أكون قاسية القلب‪،‬‬                    ‫أمام سطوة قوى الوجود الغامضة‪.‬‬
                                                          ‫إن شعرية قصيدة النثر ربما تتأ َّتى كذلك من تأمل‬
              ‫وميتة بطريقة ما في مكان آخر»‪.‬‬               ‫العالم وتأويله بما يناسب مخاوف الذات وهواجسها‪،‬‬
 ‫وانتها ًء بالإهداء‪ ،‬إهداء صريح ومباشر للأب‪ ،‬فهو‬
 ‫أحاطها وحاول حمايتها من العالم‪ ،‬العالم الذي كانت‬             ‫إنها كتابة تفكك وته ِّدم ما هو قار وثابت لتنتصر‬
                                                                                         ‫للضعف الإنساني‪.‬‬
                     ‫قبلاته مستعارة على أية حال‪:‬‬
                                    ‫«إلى أبي‪:‬‬             ‫كذلك يحاول شعراء قصيدة النثر أن يقدموا قراءة‬
                                   ‫هكذا عشت‬                    ‫للوجود‪ ،‬قراءة لكل ما يهدد بقاء الإنسان‪ :‬قلقه‪،‬‬

                            ‫لا أرى خلفي أح ًدا‬              ‫هواجسه‪ ،‬قناعاته‪ .‬ويحاول شاعر وشاعرة قصيدة‬
                                      ‫إلا ظلك‪،‬‬             ‫أن النثر أن يفكك شفرات الوجود‪ ،‬وأن يقرأ مساقات‬

                                   ‫ولا أمامي‪،‬‬                  ‫الكون وتقاطعاته‪ ،‬وأن يحدثوا قطيعة مع ما هو‬
                       ‫إلا صورتك في المرآة»‪.‬‬                ‫مؤتلف ويسعون حثيثًا نحو ما هو مختلف ومغاير‪.‬‬
       ‫في القصيدة الأولى التي تص َّدرت الديوان‪،‬‬
   ‫بعنوان «جلسات قديمة تصلح للمنفى» تعلن الذات‬                 ‫إنه العالم الذي (يبدع الوهم) والذي نرتضي‬
     ‫الشاعرة وعيها بتخلِّي الشاعر الحداثي عن دور‬           ‫الضياع فيه بكل سرور‪ .‬وعلينا أن ننظر لتركيب من‬
 ‫الأنبياء والمخلصين‪ ،‬عن دور رعاة الأحلام الكبرى‪،‬‬          ‫الحياة العادية أدخله الشاعر سياقه الجمالي ونندهش‬
    ‫فالذات الشاعرة هنا تعلن لنا وببساطة أنها امرأة‬
 ‫عادية ليست ذات رسالة مقدسة‪ ،‬وأنها قد يصل بها‬                                    ‫ببلاغته وجماليته المختلفة‪.‬‬
  ‫الأمر إلى الجلوس رفقة «الشيطان»‪ ،‬بل قد تعرض‬                   ‫كذلك يتمثل شعراء قصيدة النثر قي َم ما بعد‬
   ‫لوجهة النظر الأخرى التي ترى الشيطان على غير‬                  ‫الحداثة التي أسهمت أكثر في تشييء الإنسان‪،‬‬
 ‫الصورة الذهنية التي ص َّدرتها الأديان للبشرية‪ ،‬فهو‬       ‫وتسليعه مع عولمة الألم والمصير الإنساني البائس‪،‬‬
 ‫قد يحتاج إلى من يستمع إلى شكواه في هذه الدنيا‪،‬‬             ‫وكأننا أمام دستوبيا فاسدة لا يعلو فيها إلا صوت‬
     ‫فهو مثل الذات الشاعرة يعاني من الغربة‪ ،‬ومن‬             ‫الألم‪ ،‬صوت الآهات والمواجع‪ ،‬فالمصير الإنساني‬
  ‫قسوة النبذ‪ ،‬إذن منذ القصيدة الأولى ونحن نعرف‬
‫أننا سنواجه مع الذات مواجعها ومتاعبها‪ ،‬فهي تعاني‬                         ‫واحد والعالم يمتلئ بشواهد القبور!‬
    ‫من الغربة وقسوة النبذ‪ ،‬وللمصادفة أن الشيطان‬            ‫ربما هذه الفرضيات جمي ًعا وجب التقديم بها وأنا‬
                                                            ‫أتوقف مليًّا أمام ديوان الشاعرة الشابة رضا أحمد‬
                                                          ‫«قبلات مستعارة»‪ ،‬الذي فاز قبل عام بجائزة «عفيفي‬
                                                            ‫مطر» التي يطلقها منتدى محمد عفيفي مطر للثقافة‬
   114   115   116   117   118   119   120   121   122   123   124