Page 250 - ميريت الثقافية- العدد 19- يوليو 2020
P. 250

‫العـدد ‪١٩‬‬                             ‫‪250‬‬

                                       ‫يوليو ‪٢٠٢٠‬‬

                                       ‫سنوات هزيمة‬

                                       ‫يونيو‪:‬‬

                                       ‫سمـير غريـبرواية‬
                                       ‫شخصية‬

    ‫القاهرة‪ .‬وقفت على المحطة أراقب‬       ‫راديو البيت الضخم‪ .‬سمعنا الرئيس‬      ‫كنت أقف في شرفة شقتنا المطلة‬
 ‫الحشود التي ملأت القطارات القادمة‬         ‫جمال عبد الناصر يتحدث بصوت‬
 ‫من الجنوب‪ .‬كنت أود أن أركب معهم‬                                                ‫على شارع الجمهورية في منفلوط‪،‬‬
‫لكني صغير السن ولم أخبر أبي فعدت‬       ‫هادئ حزين‪ .‬عرفنا منه أننا لم ننتصر‬      ‫أنتظر رفيق أو حسن بائعا الصحف‬
                                         ‫بل أصبنا بنكسة‪ .‬لم يسمها هزيمة‪.‬‬     ‫اللذان أصبحا صديق َّي‪ .‬اعتدت أن ألقى‬
        ‫أدراجي أجرجر أذيال الخيبة‪.‬‬                                              ‫لأحدهما سلة مربوطة بحبل ليضع‬
    ‫أخذت أتابع الأخبار منصتًا إلى‬      ‫وأنه المسئول الوحيد عن هذه النكسة‬       ‫أحدهما نسخة من صحف ومجلات‬
 ‫الراديو وقار ًئا صحف حسن ورفيق‬              ‫لذلك قرر أن يتنحى عن الحكم‪.‬‬
                                                                                   ‫اليوم‪ ،‬أقرأها وبعد العصر يعود‬
                      ‫رحمهما الله‪.‬‬       ‫في تلك اللحظة تحجرت أصابعنا‬            ‫لأخذها مرة أخرى مع المرتجع من‬
 ‫القبض على عبد الحكيم عامر قائد‬          ‫على ما كنا نمسكه من طعام قبل أن‬       ‫الصحف‪ .‬كنت في الإجازة الصيفية‬
  ‫الجيش واعتقاله في بيت في الجيزة‬      ‫يدخل أفواهنا‪ .‬تحولنا‪ ،‬أبي وأمي وأنا‪،‬‬     ‫منهيًا امتحانات المرحلة الإعدادية‪.‬‬
 ‫وانتحاره فيه بالسم كما قرأت‪ .‬تشاء‬      ‫إلى تماثيل‪ .‬توقف الزمن‪ .‬ثم انفجرت‬      ‫في هذا الصباح من يونيو ‪1967‬‬
   ‫الصدف أن أدخل هذا البيت بنفسي‬          ‫أمي في البكاء وسالت دموع عيني‬          ‫طالعت عناوين الصحف المطبوعة‬
  ‫في بدايات عام ‪ ،1993‬بعد ‪ 27‬سنة‬        ‫أبي فمسحها بكم جلبابه‪ .‬كانت المرة‬      ‫بالخط الأحمر العريض‪« :‬إسقاط ‪86‬‬
‫من الهزيمة! كان البيت قص ًرا صغي ًرا‪،‬‬  ‫الأولى التي أرى عينيه تدمعان‪ .‬سمعنا‬
‫تطل إحدى واجهتيه على النيل‪ ،‬بحديقة‬      ‫أصوا ًتا في الشارع تهتف‪« :‬لا تتنحى‬       ‫طائرة للعدو وقواتنا تتوغل داخل‬
‫كبيرة يسمى قصر الطحاوية على اسم‬          ‫لا تتنحى»‪ .‬انطلقت خار ًجا من البيت‬     ‫إسرائيل»‪ .‬فرحت وهتفت وشعرت‬
‫شارعه أو العكس‪ .‬غيروا اسم الشارع‬                                               ‫بالفخر‪ .‬لكن بعد العصر طاف رجال‬
 ‫بعد ذلك إلى جمال حمدان متفرع من‬                      ‫لألتحق بمن يهتفون‪.‬‬       ‫في شوارع المدينة يطالبون السكان‬
                                        ‫خرج من كانوا في الدكاكين وعلى‬         ‫بطلاء زجاج نوافذهم باللون الأزرق‪.‬‬
                      ‫شارع النيل‪.‬‬                                                ‫في المساء كانت أصوات تعلو في‬
 ‫لماذا دخلت القصر الذي اعتقل فيه‬           ‫المقاهي يسيرون في اتجاه واحد‬        ‫الشوارع والدروب يطالبون السكان‬
                                         ‫صاعدين نحو ميدان القلعة‪ .‬الميدان‬       ‫بإطفاء الأنوار‪ .‬عشنا بضعة أيام لا‬
            ‫عبد الحكيم عامر ومات؟‬        ‫الرئيس في المدينة ومنه إلى محطة‬     ‫نفهم شيئًا‪ .‬في الصباح أنتظر الصحف‬
         ‫كان القصر تاب ًعا لرئاسة‬                                              ‫لمزيد من أخبار النصر وعندما يأتي‬
   ‫الجمهورية قبل أن يعتقل فيه عامر‬           ‫القطار‪ .‬في كل خطوة كان عدد‬      ‫المساء نغلق النوافذ ونعيش في ظلام‪.‬‬
‫وحتى دخلته‪ .‬وجدته تقريبًا على حاله‬     ‫الهاتفين يتزايد حيث انضم إليهم مزيد‬     ‫حتى حل مساء‪ .‬كنا نتحلق حول‬
  ‫منذ وفاة المشير عامر والقبض على‬                                                ‫«الطبلية» (مائدة خشبية مستديرة‬
 ‫المعتصمين فيه من أنصاره‪ ،‬مع فعل‬          ‫ممن خرجوا من بيوتهم أو غادروا‬
                                        ‫المقاهي والمحلات‪ .‬عشرات ثم مئات‬           ‫قصيرة الأرجل)‪ ،‬أبي وأمي وأنا‬
                     ‫الزمن بالطبع‪.‬‬                                               ‫نتناول طعام العشاء وبالقرب منا‬
       ‫الذي حدث أنني كنت مدي ًرا‬          ‫البشر من مختلف الأعمار‪ .‬لا أذكر‬
                                       ‫أنني رأيت نسا ًء بينهم‪ .‬تجمعت حشود‬

                                             ‫كبيرة على محطة القطار‪ .‬ركبوا‬
                                          ‫كل قطار متجهة إلى «بحري» حيث‬
   245   246   247   248   249   250   251   252   253   254   255