Page 251 - ميريت الثقافية- العدد 19- يوليو 2020
P. 251

‫‪251‬‬  ‫ثقافات وفنون‬

     ‫ســيرة‬

   ‫رحمهما الله‪ ،‬تستغل بذخه دون أن‬        ‫فواتير شراء عطور وملابس حريمي‪.‬‬                 ‫لصندوق التنمية الثقافية في‬
 ‫ندري‪ .‬اكتشفنا أنها كانت تدخر الفكة‬      ‫قررت تسليم كل هذه المستندات كما‬            ‫تسعينيات القرن الماضي‪ .‬اتفقت‬
                                                                                  ‫السيدة سوزان مبارك مع مؤسسة‬
      ‫التي تتبقى من مصروف البيت‪،‬‬                    ‫هي لرئاسة الجمهورية‪.‬‬       ‫ألمانية أسمها «بيرتلسمان» على إنشاء‬
  ‫وتلك التي يخرجها أبي من جيبه كل‬        ‫أعود إلى عام الهزيمة في منفلوط‪.‬‬          ‫مكتبة عامة كبيرة في مصر‪ .‬كانت‬
                                                                                 ‫المؤسسة خيرية لا تستهدف الربح‬
    ‫مساء بعد عودته من العمل‪ .‬كانت‬          ‫كان بداية ست سنوات من الخراب‬           ‫ولديها ميزانية كبيرة‪ .‬كان رئيسها‬
    ‫تضع العملات المعدنية من المليم‬          ‫العام في مصر‪ .‬لكنها كانت أي ًضا‬       ‫العظيم «رينهارد موون» رحمه الله‬
‫والتعريفة والقرش وغيرها في صفائح‬           ‫سنوات الخراب الذي لحق بأسرتي‬        ‫مهتم بالثقافة والمكتبات بالذات‪ .‬فمول‬
  ‫من الصاج حتى إن امتلأت صفيحة‬           ‫الصغيرة حيث كنت وحيد أبو َّي‪ .‬كان‬      ‫إنشاء بعض المكتبات العامة في عدة‬
 ‫أغلقتها بالقصدير! ملأت أمي عشرات‬          ‫أبي مقاو ًل للبياض‪ .‬بمجرد نشوب‬        ‫دول‪ .‬تعرفت السيدة سوزان مبارك‬
‫الصفائح واخفتها عنا‪ .‬لم نرها إلا بعد‬      ‫الحرب توقفت أعماله فتوقف دخله‪.‬‬         ‫عليه وعرضت أن يمول إنشاء مكتبة‬
    ‫أن أفلس أبي بسبب هزيمة يونيو‪.‬‬            ‫هذا حدث لكل العاملين في قطاع‬      ‫عامة في مصر ووافق‪ .‬اتفقت معه على‬
 ‫أنفقت علينا منها لفترة طويلة‪ .‬فرغت‬      ‫المقاولات تقريبًا ولكثير من العاملين‬     ‫أن تكون مؤسسته شريكة لجهتين‬
 ‫الصفائح ونجحت في الثانوية العامة‬          ‫في القطاع الخاص‪ .‬تحول اقتصاد‬             ‫مصريتين معنيتين هما صندوق‬
 ‫وأردت السفر إلى القاهرة عام ‪1970‬‬        ‫البلد كله إلى المجهود الحربي بعد أن‬   ‫التنمية الثقافية بوزارة الثقافة وجمعية‬
     ‫لألتحق بمعهد الإعلام في جامعة‬         ‫توقفت حرب الأيام الستة‪ .‬خسرت‬        ‫الرعاية المتكاملة الأهلية التي ترأستها‪.‬‬
   ‫القاهرة الذي اعتدت على القول إنه‬      ‫مصر شبه جزيرة سيناء كلها بعد أن‬            ‫نقلت السيدة سوزان تبعية قصر‬
  ‫فتح من أجلي لقصة خاصة نشرتها‬          ‫احتلتها إسرائيل‪ .‬أعلن عبد الناصر عن‬    ‫الطحاوية إلى صندوق التنمية‪ .‬أنشأت‬
‫في كتابي «خلود المحبة» الصادر عن‬           ‫إصراره على استعادتها‪ .‬فبدأ إعداد‬     ‫لجنة إدارة لمشروع المكتبة من ثلاثة‬
   ‫الهيئة العامة للكتاب العام الماضي‪،‬‬   ‫الدولة لحرب جديدة‪ ،‬مات عبد الناصر‬       ‫ممثلين لكل جهة برئاسة السفير عبد‬
   ‫لاداعي لتكرارها هنا‪ .‬كان لا بد أن‬                                           ‫الرؤوف الريدي ممثل الجمعية‪ .‬وكنت‬
  ‫يكون معي نقود أسافر بها للقاهرة‪.‬‬            ‫دونها‪ ،‬ولم تتحقق إلا بعد ثلاث‬
   ‫أقطع تذكرة القطار وأنفق بها على‬        ‫سنوات من وفاته في أكتوبر ‪.1973‬‬                         ‫ممث ًل للصندوق‪.‬‬
  ‫نفسي ودراستي لفترة قصيرة على‬            ‫ست سنوات قضيناها بين هزيمة‬            ‫إذن كنت أول الداخلين للقصر من‬
 ‫الأقل‪ .‬فكيف وفر والدا َي هذه النقود‪.‬‬    ‫يونيو وانتصار أكتوبر‪ .‬ست سنوات‬         ‫خارج رئاسة الجمهورية لأستلمه مع‬
‫باعا أثا ًثا من البيت‪ .‬أول مأساة في‬       ‫وجهت فيها الدولة إيراداتها ‪-‬وتبرع‬     ‫لجنة شكلتها من الصندوق والمقاول‬
   ‫حياتي وليست آخرها‪ .‬لا يمكن أن‬           ‫خلالها الشعب‪ -‬للمجهود الحربي‪.‬‬          ‫المصري المهندس ممدوح حبشي‪،‬‬
 ‫أنسى منظر النجار وهو يفك الدولاب‬          ‫ست سنوات لم يجد فيها أبي عم ًل‬
‫والسرير ويحملهما مع بعض «الكنب»‬                                                    ‫الذي رشحته المؤسسة الألمانية‪،‬‬
     ‫ويرحل‪ .‬باعا أثا ًثا عاش معي منذ‬        ‫تقريبًا‪ .‬فتوقف دخله الوحيد الذي‬     ‫فهي التي ستنفق على تحويل القصر‬
                                           ‫نعتمد عليه في الحياة‪ .‬ست سنوات‬       ‫لمكتبة‪ .‬وجدن المكان من الداخل في‬
      ‫ولدت وحتى صيف عام ‪.1970‬‬             ‫انتقلت خلالها من المرحلة الإعدادية‬
  ‫كنت الابن الوحيد وكانت علاقتي‬            ‫إلى الثانوية إلى الجامعة‪ .‬أهم ست‬        ‫حالة مزرية بسبب غلقه بعد وفاة‬
  ‫بأمي عاطفية خاصة‪ .‬كنت كل شيء‬           ‫سنوات في حياة أي إنسان ينتقل من‬          ‫عامر‪ .‬في المكان حشرات وتساقط‬
‫في حياتها‪ .‬حزنت أمي كثي ًرا ج ًّدا على‬                                           ‫أسقف وتآكل حمامات وزواحف في‬
  ‫فراقي لها‪ .‬هذه أول مرة أفارقها‪ ،‬أنا‬         ‫مرحلة الصبا إلى سن الشباب‪.‬‬         ‫البدروم‪ .‬لكن أكثر ما لفت نظري هو‬
  ‫الذي كنت أربط يدها بيدي بـ «فتلة»‬          ‫سنوات محفورة في ذاكرتي‪.‬‬              ‫وجود أضابير من مستندات ورقية‬
‫عندما أنام لكي لا تغادرني أثناء نومي‬          ‫أصبحت أمي هي من تنفق على‬             ‫بتواريخ ترجع إلى فترة الستينات‬
                                        ‫الأسرة‪ .‬كانت نفقاتنا مقتصرة على ما‬      ‫قبل وفاة عامر‪ .‬دهشت عندما وجدت‬
    ‫لتذهب إلى أبي وأنا طفل‪ .‬مع ذلك‬      ‫نأكل وما نشرب‪ .‬كيف كانت أمي تنفق‬        ‫في هذه المستندات الكثير من فواتير‬
 ‫كنت إن استيقظت أثناء الليل لا أجدها‬                                             ‫شراء من محلات في باريس‪ ،‬ومنها‬
  ‫بجواري فأذهب إليها في سرير أبي‬                        ‫علينا وهي لا تعمل؟‬
                                          ‫كان أبي في سنوات الرخاء ينفق‬

                                              ‫علينا ببذخ‪ .‬كانت أمي العظيمة‪،‬‬
   246   247   248   249   250   251   252   253   254   255   256